خلال خطابه بعد مرور عام على غزو أوكرانيا، أعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تعليق مشاركة موسكو في آخر معاهدة لضبط الأسلحة بين أكبر دولتين نوويتين في العالم، روسيا وأمريكا.
قبل البحث عن الأسباب والمآلات لا بد من معرفة واقع هذه الاتفاقية، حيث تعد معاهدة نيو ستارت امتداداً لمعاهدة الحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية ستارت 1 الموقعة بين أمريكا والاتحاد السوفييتي عام 1991 في موسكو.
بدأ الحديث فعليا عن معاهدات للحد من الأسلحة النووية في ثمانينات القرن الماضي في عهد رئيس أمريكا آنذاك رونالد ريغان عقب محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية في السبعينات حيث تم الاتفاق على خفض الأسلحة الهجومية الاستراتيجية وعلى عمليات التفتيش والتحقق بموجب ستارت 1.
وآنذاك منعت المعاهدة الموقعين عليها من نشر أكثر من 6000 رأس نووية فوق 1600 صواريخ بالستية عابرة للقارات والقاذفات.
عام 1991، وقع البلدان معاهدة الحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية ستارت 2 لخفض الأسلحة النووية حيث اتفقا على خفض عدد الرؤوس الحربية الاستراتيجية إلى 3500 بحلول العام 2003.
في 8 نيسان/أبريل 2010 بالعاصمة التشيكية براغ، جرى توقيع معاهدة ستارت 3 من الرئيسين الروسي دميتري ميدفيديف، والأمريكي باراك أوباما، ودخلت حيز التنفيذ في 5 شباط/فبراير 2011.
ووفق الاتفاقية تلتزم موسكو وواشنطن بنشر ما لا يزيد عن 1550 رأسا نوويا استراتيجيا و700 صاروخ طويل المدى وقاذفات قنابل وتخفيض عدد منصات الإطلاق والقاذفات الثقيلة إلى 800 قطعة. ونصت على السماح لكل طرف بإجراء ما يصل إلى 18 عملية تفتيش للتحقق من التزامه ببنود المعاهدة.
ثم جاء ترامب حيث أعلن في العشرين من تشرين الأول/أكتوبر الماضي عن الانسحاب من معاهدة "القوى النووية متوسّطة المدى" مع روسيا، وقد وصفت إدارته المعاهدة "بأن بها ثغرات خطيرة، ويرجع ذلك جزئياً لأنها لا تتناول الأسلحة النووية الاستراتيجية بعيدة المدى التي يمكن استخدامها لتهديد أراضي الدولة الأخرى، ولا تتطرق للأسلحة قصيرة المدى التي يطلق عليها أسلحة تكتيكية، فترسانة روسيا من الأسلحة التكتيكية أضخم بكثير من مثيلتها الأمريكية، وكانت إدارة ترامب تأمل أن تجبر روسيا على الموافقة على تجميد العدد الإجمالي للرؤوس النووية، بل شارك بعض مستشاري بايدن رسمياً قلقهم لأن "ستارت الجديدة" لا تنطبق على الأسلحة النووية قصيرة ومتوسطة المدى".
أما لماذا علق بوتين الاتفاقية فقد صرّح سفير روسيا في أمريكا، أناتولي أنطونوف، أن بلاده ما تزال ملتزمة بأهداف معاهدة ستارت الجديدة، لكنها تعتبر أن دعوة الجيش الأمريكي إلى منشآتها الاستراتيجية غير مبررة وسابقة لأوانها وغير مناسبة، بينما يتخذ البلدان موقفين متناقضين من الصراع في أوكرانيا.
بمعنى أن الصراع في أوكرانيا ووقوف أمريكا مع أوكرانيا هو الدافع للتعليق بسبب معرفة الجيش الأمريكي للمواقع العسكرية والتي قد تكون محل استهداف في مرحلة ما. وهذه ليست هي المرة الأولى التي يعلق فيها بوتين اتفاقية أسلحة فقد أعلن في عام 2007 أن الكرملين سيعلق معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا، التي وُقعت في العام الأخير من الحرب الباردة.
انسحب الروس في نهاية المطاف من تلك الاتفاقية في عام 2015، زاعمين أنَّ توسُّع الناتو في دول البلطيق وسلوفينيا قوَّض شروط الاتفاقية.
كما أن معاهدة القوات النووية متوسطة المدى، وهي اتفاقية تاريخية تم توقيعها خلال إدارة ريغان، قد انتهت أيضاً عام 2019، عندما انسحب ترامب من الاتفاقية، مشيراً إلى عدم الامتثال الروسي باعتباره السبب الرئيسي لإنهاء 30 عاماً من الالتزام.
والآن لنقف على مناقشة قرار بوتين هذا. في الحقيقة وبعيدا عن بهرجة روسيا الإعلامية فإن هذا القرار خطوة متأخرة جدا. ولو كانت روسيا تفكر بعمق لما أقدمت أصلا على توقيع تلك المعاهدات في ظل اختلال التوازن الكبير بينها وبين أمريكا ولكن يبدو أن قرار التوقيع كان لظروف صعبة - مع ضعف الرؤية السياسية لدى الروس - منها أن سباق التسلح السابق أدى إلى إرهاق روسيا وأفقدها قوة التحمل نتيجة ضعف الاقتصاد، فالسلاح يحتاج إلى قوة اقتصادية تمول عمليات البحث والتفكير والتجارب والإنتاج ويتطلب توفير بيئة آمنة للسلاح وشروط مكلفة وكلفة ضخمة بين الصيانة والحماية والمكان.
والحقيقة أن قرار بوتين هو انزلاق خطير لتحقيق الاستراتيجية الأمريكية، فأمريكا أرادت إظهار روسيا بالدولة المتمردة التي لا تلتزم بالقوانين والاتفاقيات ومن شأن هذا إخافة أوروبا بشكل كبير نظرا للتاريخ المعقد والحروب والنظرة بين الطرفين. وقد استطاعت أمريكا من خلال قرار بوتين إخافة أوروبا وجعلها ترتمي في حضن الناتو والتخلي عن حلم مشروع جيش أوروبي موحد على الأقل في المنظور القريب فقد التزمت أوروبا بالحماية العسكرية وقبلت بالشروط الأمريكية وعادت إلى عقد الزواج الكاثوليكي مرغمة.
ثم استطاعت أمريكا جر بوتين إلى سباق تسلح خطير في ظل ضعف اقتصاد روسيا مع العقوبات القاسية والمؤلمة عليها وقد سبق لها أن خسرت سباق التسلح في ظل قوتها إبان الاتحاد السوفيتي فكيف وهي اليوم تئن تحت وطأة عقوبات غير مسبوقة فالنتيجة ستكون انحداراً سريعاً جدا نحو الهاوية.
وثمة أمر آخر وهو تخويف دول الجوار من عودة روسيا ومن شأن ذلك أن تحتمي تلك الدول بأمريكا، وسيكون هذا على حساب نفوذ روسيا في جوارها وحديقتها الخلفية.
إن عقلية روسيا السياسية ضحلة جدا وهي من شدة غبائها السياسي تسير باتجاه تحقيق استراتيجية الخصم، ولو كانت تعقل ما أقدمت على ما أقدمت عليه.
فروسيا اليوم تعيش في ظل انقسام داخلي كبير كامن في الشعب حول سياساتها في ظل دكتاتورية دموية قاتلة جدا وتعيش عزلة سياسية في جوارها منطقة نفوذها التاريخي.
وقرار التعليق هذا هو قرار متهور سيعود عليه بالخذلان والتراجع بشروط مذلة وانعكاسات خطيرة فهو لا يملك الاقتصاد للسير نحو سباق جديد ولا يملك وحدة الشعب خلف قراراته ولا يملك تحدي الناتو ولا يملك من مقومات القرار، فضلا عن أن روسيا ليست بحاجة إلى ترسانة نووية بل بحاجة إلى ترسانة عسكرية قتالية في ظل انكشاف ضعف القدرة العسكرية الروسية. فأي مهانة لروسيا وهي تشتري الطائرة المسيرة من دول أخرى؟ وأي ذل وخوف أصابها في حال تقديم الغرب أسلحة نوعية دفاعية لأوكرانيا؟ وأي مستقبل مجهول يحيط بها في حال تقديم أسلحة هجومية لأوكرانيا؟ فلو كانت روسيا تفكر لأنتجت ما يغير مجرى الحرب بدل التهديد بسلاح نووي، وهي تعلم عدم قدرتها على استخدامه في الحرب إلا حسب قولهم في حال تعرض الأرض الروسية للهجوم.
رأيك في الموضوع