لم يكن قرار قيس سعيد الصادر في التاسع من شهر آذار/مارس الجاري، والقاضي بحل المجالس البلدية الـ350، والمنتخبة يوم 6 أيار/مايو 2018، وهي المجالس التي لم يبق من عهدتها إلا أياما أو بعض أشهر، بالمفاجئ لمن تابع "خارطة طريق" قيس سعيد التي أعدها للانفراد بالسلطة وإقصاء خصومه عن دائرة الفعل. تلك الانتخابات التي اعتبرت يوم الإعلان عن نتائجها، "مرحلة جديدة في تجذر الديمقراطية" في تونس، كما ورد على لسان المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الأمريكية هيذر ناويرت باعتبارها، عندهم، أول انتخابات بلدية حرة في البلاد.
ولئن يُفهم تجاوز قرار قيس سعيد وإلغاؤه لبيان الجامعة الوطنية للبلديات التونسية، والصادر يوم الثلاثاء 21 شباط/فبراير 2023، والمعبر عن تمسكها بتنظيم الانتخابات البلدية القادمة في موعدها، فإنه يأتي مؤكدا لنهج قيس سعيد في تفرده بالرأي وأنه لا يسمع لأحد، حين تجاوز وألغى موقف ورأي هيئة الانتخابات التي نصبها بنفسه، بعد استبدال أعضاء الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بسبعة أعضاء جدد، والتي أشرفت على مختلف محطاته الانتخابية منذ توليه كافة مهام السلطة التنفيذية يوم 25 تموز/يوليو 2021، حيث عبر الناطق الرسمي باسم هيئة الانتخابات عن هذا الموقف، أواسط شهر شباط/فبراير المنصرم، بأن موعد إجراء الانتخابات البلدية معلوم، ومرتبط بانتهاء المدة النيابية الأولى للمجالس البلدية، يوم السادس من أيار/مايو المقبل.
فقيس سعيد لم يمهل المجالس البلدية، حتى تتم ما تبقى من عهدتها، بل سارع إلى حلها قبيل انعقاد أشغال البرلمان الجديد، سيرا على طريقة من يقف وراءه في إرباك خصومه وتركهم يخوضون في أمر تجاوزه إلى تعويضها بنيابات خصوصية يشرف عليها الوالي - المحافظ -، إمعانا في إحكام قبضته على مفاصل السلطة جهويا ومحليا، بعد أن أمسك بدواليب السلطة مركزيا، حين جمد كل سلطات مجلس النواب، ثم حله نهائيا ورفع الحصانة عن كل أعضائه، وتولى السلطة التنفيذية، بعد إعفاء رئيس الحكومة وحل مجلسها المعين من البرلمان.
وبتعديله قانون انتخاب أعضاء المجالس البلدية، الذي سيأخذ وقته في الإعداد لها، يكون قد أتم دورة إحكام القبضة على كل السلطات، بعد أن ألغى دستور المجلس التأسيسي ليصدر دستورا لم يشاركه، داخليا على الأقل، في صياغة بنوده أحد، وانتخاب مجلس نيابي رتب ظروف الإعداد له بنفسه، ويكون كذلك قد أحاط سلطانه بجملة من هياكل ومؤسسات نظامهم الديمقراطي، مقلّمة المخالب السياسية، ومفرغة من كل معنى، بـزعم "الحفاظ على الشعب ومؤسسات الدولة"، بعد أن ألغى بجرة قلم هيئات ومنظمات قيل إنه وقع انتخابها ديمقراطيا.
وعلى قاعدة التنازع على السلطة بين قيس سعيد وخصومه، يظل أهل تونس، مفجري شرارة ثورة الأمة على نظام فصل الدين عن الحياة بفصله عن الدولة والمجتمع، تتقاذفهم أهواء الوسط السياسي - سلطة ومعارضة - وتهافتهم على الانتساب إلى الديمقراطية طمعا، في رضا الغرب الكافر المستعمر عنهم، واستمطارا لعطف الدوائر التي لا يمكن لأحد من أولئك الرويبضات أن يثبت على سلطانه إلا بسند منها.
ولذلك اتفقت حجة الواحد منهم على الآخر أنه خطر على الديمقراطية، وأن كل واحد أقدر من خصمه على الإخلاص لها، معرضين بذلك عن الإرادة الشعبية السائرة بإصرار على قلع هذا النظام، وذلك برفضهم الباتّ لكل الاتجاهات السياسية التي برزت على الساحة العامة ما مهد لقيس سعيد أن يستغل الرفض الشعبي لكل من شارك في المأساة السياسية والتي دفع فيها بإرادة الناس نحو تيه، أفقدهم بدرجة ما وضوح الرؤية، خاصة مع الإلقاء بفرية فشل الإسلام السياسي.
فكان لقيس سعيد، بعد أن أحكم قبضته على السلطة، فرصة سانحة للتخلص من خصومه بالزج برؤوسهم في المعتقلات، كونهم متورطين بالإثباتات في التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي، وأنهم يقفون وراء الأزمات المتصلة بتوزيع السلع والترفيع في الأسعار. ولا زال يصر على الادعاء بأنه الأقدر على تحقيق إرادة الناس في التغيير، خاصة بعد أن عمل منذ توليه السلطة باللعب على مشاعر الناس بأنه جاء ليحقق شعار الثورة، فيرفع عامدا مقولة "الشعب يريد" منتقصا منها عبارة "إسقاط النظام"، فكانت إجراءاته تحقيقا لتلك الإرادة الموهومة، فأمعن في التضليل بقوله "سنواصل المسيرة معا ولن نقبل بغير الانتصار بديلا"، ولا تستبعد إمكانية ملاحقة بعض أعضاء المجالس البلدية المنحلة إمعانا في إيهام الناس بأنه على طريق تطهير الحياة السياسية من الفساد والمفسدين، صارفا أذهان الناس عن النظام الديمقراطي العلماني، الفاجر، أصل الفساد ومنبت الفاسدين.
ومن المؤكد أنه ليس من الإنصاف القول إن طريق قيس سعيد سالكة، دون عقبات، فهو وإن احتاج لتثبيت نفوذه إلى الالتجاء إلى الفرنسيين، يرجو عندهم السند، فإن الوسط السياسي القديم لا زال يضع أمامه العقبات التي تربك مواقفه، رغم يده الطولى التي لم تدع أي خط سياسي إلا وطالته، حتى لكأن المشهد يكاد يفلت من بين يديه. فقد استطاعت مجموعة من الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع التونسي أن تفضح الدعم الفرنسي الفاضح لقرارات قيس سعيد، ما عرى حقيقته وانكشفت ارتباطاته، ما أفقد أي معنى لادعائه الدفاع عن "السيادة الوطنية"، وهو الأمر الذي عدته الأوساط المعارضة له بأنه تدخل أجنبي في شؤون تونس الداخلية، وأن التدخل الفرنسي ينافي ويعادي القيم الديمقراطية، في إعراض خطير ومقيت عن قيم الإسلام وأحكامه، و"مخالف لقيم الثورة الفرنسية" (هكذا)، ما حدا ببعض الجهات الفرنسية أن تعلن عن انشغالها بموجة الاعتقالات في تونس رفعا للعتب وتمويها للرأي العام، ومع ذلك يعلن السفير الفرنسي عن منح تونس 50 مليون يورو، وعن دعمها بالمساعدة للحصول على تمويلات ثنائية. وهكذا يلتقي قيس سعيد مع خصومه على صعيد الدفاع عن الديمقراطية، فبين دفاعهم عن قيم الديمقراطية أمام استبداد قيس سعيد وخطره عليها، وبين إيمان قيس سعيد بالديمقراطية حد النخاع وهو الذي اتخذ الفيلسوف الفرنسي جورج فودال مثلا أعلى له في الحياة، ضُيّعت بين الطرفين ثورة أهل تونس، واستهزئ بأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه.
رأيك في الموضوع