لقد أحكم قيس سعيد الطوق أمام أي تفسير أو تأويل قانوني لحتمية الانتهاء من المرحلة الاستثنائية، والخروج من العمل بالمراسيم الرئاسية، والقطع مع تأويله للفصل 80 من دستور 2014 والذي أنهى بموجب ذلك التأويل مهام رئيس الحكومة، وجمّد عمل البرلمان، ورفع الحصانة عن نوابه، وتولى هو بنفسه السلطة التنفيذية، وذلك باتخاذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، رغم إجراء الاستفتاء على دستور جديد صاغه بنفسه، وتنصيب البرلمان الذي انتخب بشروطه، وحتى بعد عقد أولى جلساته يوم 13 آذار/مارس الماضي إثر الفراغ الذي استمر 20 شهراً، لم يكن كل ذلك كافيا عند قيس سعيد لتكون عملية تنصيب هذا البرلمان آخر خطوة في مرحلة الاستثناء التي فرضها على تونس منذ 25 تموز/يوليو 2021. فلم تشفع لخصومه، ولا حتى لمن ناصره في تمشيه "القانوني"، عملية إنجاز الانتخابات المبكرة للقطع مع المرحلة الاستثنائية لتركيز مؤسسات الدولة والخروج من العمل بالمراسيم الرئاسية، فكان إعلانه عن تمديد حالة الطوارئ في كامل البلاد لسنة كاملة ابتداء من 31 كانون الثاني/يناير 2023، إلى غاية 31 كانون الأول/ديسمبر 2023. بعد أن كان التمديد لا يتجاوز الشهر والثلاثة حين أعاد الباجي قايد السبسي العمل بأمر كان قد أصدره بورقيبة عام 1978، رغم اعتبار قيس سعيد قانون الطوارئ غير دستوري، وقد قال لدى توقيعه تمديداً سابقاً إنّه "كان مجبراً على إعلان تمديد حالة الطوارئ، كمن يمسك بجمرة" سيف المعز، دون ذهبه، الذي أحكم به قبضته على السلطة، بعد أن كان قد أحكم القيد على مرفق القضاء وذلك بحله المجلس الأعلى للقضاء وتعيينه، يوم 07/03/2022، أعضاء المجلس الجديد، بعد أن منح نفسه صلاحيات واسعة تشمل عزله القضاة، إذ "لا مجال للتسامح مع هؤلاء الذين يحاولون تطويع القانون لتمكين المهربين والمجرمين والمحتكرين من الإفلات من العقاب". فأفرد نفسه بأهلية "تصحيح مسار الثورة ومكافحة الفوضى والفساد في مؤسسات الدولة"، فصارت سلطته مطلقة في التأويل والتنفيذ.
لم يكن مستغربا من قيس سعيد أن يتوج حملة شيطنته لخصومه السياسيين، الذين ظلوا يعتبرون اتخاذه للإجراءات الاستثنائية يوم 25 تموز/يوليو 2021 عملا انقلابيا، وانحرافا بالسلطة، حين أعطى لنفسه الحق الحصري في تأويل الدستور، ووضع البلاد أمام الأمر المقضي، واعتبارهم خطابه شعبويا استئصاليا يهدد ترابط المجتمع، فاتهمهم بتلقي الأموال من الخارج، للعمل على ضرب استقرار البلاد، ثم دعوته غير المسبوقة، من أسماهم "المواطنين الصادقين إلى تطهير البلاد من كل من عبثَ بمقدرات الدولة والشعب"، واعتقاله أبرز خصومه، من قيادات حركة النهضة وجبهة الخلاص، لتتوج حملته بإذن من النيابة العمومية بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب، لأعوان وحدة مكافحة الإرهاب ببوشوشة بإيقاف الغنوشي، وتفتيش منزله على خلفية تسريب مقطع فيديو لمحادثة جمعت بينه وبين قيادات من جبهة الخلاص الوطني، قال فيه "إن إقصاء الإسلام السياسي أو اليسار أو أي طرف سياسي آخر، يهدد بحرب أهلية في البلاد". فكان لهذا الإيقاف وقع الصدمة على المشهد السياسي في تونس، رغم أنه الأمر الذي كانت تدعو إليه العديد من الفصائل السياسية العلمانية من يسارية وقومية، وبقايا التجمع الدستوري المنحل، والتي طالما حرضت قيس سعيد على القيام بهذه الخطوة. لقد فتح قرار الإيقاف هذا، لمنع أي نشاط لمنتسبي النهضة بكافة مقراتها بكامل البلاد، وحظر نشاط جبهة الخلاص في مقراتها بالعاصمة، ما فتح المجال واسعا أمام تكهن العديد من الأوساط السياسية بتوجه قيس سعيد إلى حظر الحياة الحزبية قياسا على ما قام به بن علي عام 1989 لما صحَّر المشهد السياسي بعد تصفية حركة النهضة. إلا أن المراقب لتحركات قيس سعيد منذ أن وضع يده على كل السلطات يرى أنه أصبح يحظى بهامش كبير من اتخاذ القرارات، خاصة أمام الردود الخارجية المائعة على ما يقوم به، والتي ترتكز أساسا على ضرورة العودة إلى إرساء الهياكل الديمقراطية وضرورة تمتع المحالين إلى القضاء بمحاكمات عادلة، حيث تركت له مهمة معالجة ما بات يراه الغرب من عزوف عام من أهل تونس عن الديمقراطية ورفضهم للمتمسحين بأعتابها، خاصة وأن الغرب بات يخشى اتساع الوعي لدى الناس على ضرورة الالتفات إلى مقدرات البلاد وضرورة توظيفها لما يصلح شأنهم، وأن مفهوم الديمقراطية لدى الغرب، فصل الدين عن الحياة لم يؤثر فيهم، ولم يبعدهم عن صلتهم بعقيدتهم، فعمد إلى محاولة قطع الطريق عن هذا الوعي المتنامي، بالترهيب والإقصاء.
فقيس سعيد يبدو أنه ليس في حاجة ماسة إلى قرار حظر الأحزاب، وقد أوقف عمل الحكومة على ما يراه، واستنسخ برلمانا يذكر بما كانت عليه البرلمانات أيام بورقيبة وبن علي، وبعد أن أحكم قبضته على القضاء، والذي أصبح يعده وظيفة لدى السلطة التنفيذية وحتى قبل إيقاف قيادات المعارضة منها لتسلطه وتفرده بالحكم، كانت في حكم المحلولة. فهو يتصرف بمطلق إرادته، والأحزاب السياسية وباقي المكونات مشلولة الإرادة تراقب أفعاله، ولا تقدر إلا على بعض التعليقات الباهتة حيث لا تؤثر في قرار ولا يؤبه لموقفها. فلم يبق لها إلا أن توجهت بكليتها إلى مراكز التأثير العالمية عساها تحظى بالدعم لمواقفها. تلك المراكز التي باتت تدرك خطر إعراض أهل تونس عن ديمقراطيتها وعن وكلائها بيننا، فهي باتت موضع ريب في قدرتها على قيادة الناس، والتأثير فيهم، خاصة بعد كارثة نسب المشاركة في الانتخابات الأخيرة. وعلى هذا يبدو أن ليل الموقوفين، ومن سيتبعهم سيطول، خاصة وأن المنظمات الحقوقية العالمية ليست في عجلة من أمرها للحسم في أمرهم، فهذه المقررة الأممية المعنية باستقلال القضاة والمحامين، تقبل بتأجيل زيارتها إلى تونس نزولا عند طلب السُّلط التونسية بعدما كان من المقرر أن تقدم تقريرها حول الموضوع خلال سنة 2024.
ولعل تصريح وزير الخارجية الإيطالي في معرض حديثه عن الأزمة الاقتصادية في تونس وضرورة تحديدهم آلية التعاطي معها، يكشف عن مدى تحكمهم في مصائرنا حين قال: "حاولت أيضاً شرح ذلك لصندوق النقد الدولي، لأننا نحن الإيطاليين أكثر تفهما للشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، فحل الأحزاب، يغلب على الظن أنها ليست من أهداف المرحلة عندهم.
رأيك في الموضوع