منذ أن أحكم قيس سعيد قبضته على مفاصل السلطة في تونس، فلم يعد يشاركه فيها أحد، وبعد أن نصّب هياكل السلطة التي تأتمر بأوامره، كرئاسة الحكومة وأعضائها، أو البرلمان الذي أنهى دورته الأولى دون أن يشعر بوجوده أحد، أو تنصيبه لمجلس أعلى مؤقت للقضاء "ليكون أعضاؤه في مستوى المرحلة التي تعيشها تونس"، وذلك بإرسائه نظاما رئاسيا، إلا أنه ورغم تفرده بالسلطة، وحصره كل قرار بإرادته وحده، فإن أوضاع البلاد ازدادت سوءا، وعظم ضنك العيش على الناس، بعد أن أصبحت المؤسسات الرسمية المحتكرة للمواد الأساسية عاجزة ماليا عن توفير هذه المواد في السوق التونسية.
فلم تحمل إجراءاته الاستثنائية جوابا للمشاكل الاقتصادية والمجتمعية الحارقة، لا بل زادت في تعميق الأزمة المالية لتونس، وشحّت معه موارد الدولة، حتى توقفت عملية تغطية عجز موازنة عام 2022/2023 على قرض يبلغ 1.9 مليار دولار، يصر صندوق النقد الدولي على عدم إمضائه، إلا بعد قبول السلطة في تونس كل شروط الصندوق، ما يهدّد البلاد بالعجز عن سداد دينها الخارجي، أو القدرة على توفير المواد الأساسية بالسوق، حتى غدت الطوابير لا تكاد تنقطع من أمام محلات بيع الخبز، وأخص المواد الحياتية كالحليب والسكر والزيت.
أشعلت هذه الحال التي جرّتها دولة الحداثة على تونس، وتيرة التنافس بين الدول الاستعمارية على التدخل في شؤونها، ليصرح وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن يوم 22/03/2023 محذرا من توجه الاقتصاد التونسي نحو المجهول، داعيا إلى وجوب التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على القرض. ولتنتصب الدول الأوروبية مفاوضا عن تونس مع الصندوق، إذ بات الرئيس الفرنسي ورئيسة الوزراء الإيطالية يناديان بضرورة دعم تونس، بل إن رئيسة وزراء إيطاليا، زعيمة الحزب اليميني، دعت مباشرة خلال قمة السبع في اليابان، صندوق النقد الدولي إلى تبني نهج "عملي" لصرف تمويل تونس دون شروط مسبقة، ولتكشف سريرتها وسريرة أضرابها من القادة الاستعماريين، حين أضافت "هل هذا التصلب أفضل طريقة للمضيّ قدما؟ إذا سقطت هذه الحكومة فهل نعرف البدائل؟"
وأمام الوضع المتدحرج الذي بات عليه الاتحاد الأوروبي على مستوى الموقف الدولي، والذي أردته فيه أمريكا، بعد طردها دوله من أغلب مستعمراته والحلول محله، بإيقادها الحرب عند حدود أوروبا بين روسيا وأوكرانيا، ومن ثم إكراه أوروبا على القبول بالبقاء تحت مظلة الحلف الأطلسي، تنادت دول أوروبا، محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من باقي مناطق نفوذها، فأقرت في قمتها الاستثنائية في بروكسيل في شهر حزيران/يونيو الماضي البنود التالية:
- إقراض تونس ما يصل إلى 900 مليون يورو لمساعدة المالية الكلية للبلاد بعد قبول شروط صندوق النقد الدولي.
- تقديم 150 مليون يورو دعما لميزانية هذا العام "في سياق أجندة الإصلاح".
- استعداد الاتحاد الأوروبي تقديم 100 مليون يورو لتونس هذا العام لمساعدتها في إدارة الحدود وعمليات البحث والإنقاذ، وعمليات مكافحة التهريب وإعادة اللاجئين، مع "احترام راسخ لحقوق الإنسان".
حيث كانت هذه المقررات المالية ثمنا لما سمي فيما بعد مذكرة تفاهم حول "الشراكة الاستراتيجية والشّاملة" بين أوروبا وتونس، والتي وُقّعت يوم 16 تموز/يوليو المنصرم، إثر سلسلة من اللقاءات كان قد أداها وفد أوروبي قادته رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، ورئيس الوزراء الهولندي مارك روته، ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، في غياب بارز للطرفين الفرنسي والألماني، بعد البرود الجلي في العلاقة بينهما. لم يكن للطرف التونسي أي دور في مقرراتها، ولا يعنيه الثمن الذي سيقدمه لهؤلاء المستعمرين، مقابل ما سيحصل عليه من قروض.
لئن تطرقت هذه المذكرة إلى عدة مواضيع أهمها الهجرة والاقتصاد ومجال الزراعة والتجارة والطاقة والانتقال الرقمي، ولئن أريد لها أن تنوب عن اتفاقية "الأليكا" التي أبرمت في تشرين الثاني/نوفمبر 2012 بين الجانبين، إلا أنها أُسقطت باتفاقية أخرى عقدتها حكومة يوسف الشاهد مع بريطانيا في الرابع من تشرين الأول/أكتوبر سنة 2019، تحت عنوان "اتفاقية لاستمرارية العلاقات السياسية والتجارية" والتي توفر لبريطانيا مزايا تجارية من بينها تجارة المنتجات الصناعية بدون رسوم جمركية، إلى جانب تحرير التجارة في المنتجات الزراعية، والمواد الغذائية الزراعية، والمنتجات السمكية، فإن أبرز ما رشح عن مذكرة التفاهم هذه، مسألة الهجرة غير النظامية المتعلقة سواء بالتونسيين الفارين من بلادهم إلى أوروبا عبر إيطاليا، أو أفواج الأفارقة جنوب الصحراء الذين اتخذوا من تونس معبرا إلى أوروبا. فهذه الهجرة التي باتت تشكل أرقا لأوروبا المنهكة اقتصاديا، ولإيطاليا على وجه الخصوص، حتى أصبحت قضية الهجرة السرية حجر الزاوية في سياسة حكومتها، داخليا لدواعٍ انتخابية، وأوروبيا لابتزاز الاتحاد، دفعت بالاتحاد الأوروبي إلى فرض هذه الاتفاقية على تونس للقبول بإعادة الشباب التونسي المقيم في أوروبا على غير الصيغ القانونية إلى تونس، وهو الأمر الذي يجري تنفيذه في صمت، وتكفل تونس بالحيلولة دون أفارقة جنوب الصحراء والوصول إلى الشواطئ الإيطالية نظير بعض المال.
وفي الحقيقة، وإن كان الظاهر من فصول مذكرة التفاهم هذه، هو الجانب الاقتصادي، إلا أن المتابع الدقيق يدرك بيسر مدى القلق الأوروبي على حدائقه الخلفية من مستعمراته القديمة، إزاء الغول الأمريكي المقتحم عليه مجاله، الزاحف بثبات، والمصر على كسر الأبواب، وهو الممسك بسيف القروض التي لا بد أن تمر عبر رضا صندوق النقد الدولي مهما كان المقرض. فالاتحاد الأوروبي يسابق الزمن لتحصين مجاله بمثل هذه الاتفاقيات، خاصة وهو يدرك أن أمامه خصما آخر لا يقل شراسة عن أمريكا وهو بريطانيا التي تعتبر نفسها صاحبة الدار، رغم ارتخاء قبضتها، للوهن الذي بدا جليا على ساستها وعملائها.
هكذا لا يزال حكام بلادنا يصرون على أن يبقوها وأهلها فريسة للعدو ولا يرون في الاتفاقيات والمذكرات التي يفرضها عليهم أولياء نعمتهم بأسا، ما داموا هم الضامن لبقائهم على كراسيهم. إلا أن الخطر الحقيقي المحدق بنا، ليس هو هؤلاء الحكام، وإنما هو أنه لا زال فينا، بعد كل التجارب التي مرت بنا، والمآسي التي تجرّعناها من وراء سياساتهم وخياناتهم، من يصدقهم بكذبهم ويعلق الآمال عليهم. أما العدو المباشر فإن الله سبحانه وتعالى قضى بيننا وبينهم، أن مذكرة التفاهم معهم تقوم على قوله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾.
رئيس المكتب السياسي لحزب التحرير في ولاية تونس
رأيك في الموضوع