لعلّ من أعظم دلائل بركة جهاد أهل غزّة، وسائر أهل الأرض المباركة فلسطين، الذي انطلقت شرارته يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، فوق إذلاله لإخوان القردة والخنازير، وكشفه لحقيقة كيانهم المسخ، وتعرية سوءة "جيشهم" الذي طالما أُرهِقت أسماعنا بأنه لا يقهر! أنه أعاد للأمة وعيها على ذاتها، بأنّها أمّة من دون النّاس، بعد أن أرهقتها دعاوى الوطنية النّتنة، والقومية النّجسة، منذ أن أُسقِطت دولتُها في الرّبع الأول من القرن العشرين. فقد ظلّت تتخبّط في وحل تلك الأفكار التي اجتاحتها مع سيل الهجمة الفكرية التي فاجأها بها الجموح الغربي الكافر، سائر القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، للهيمنة والسيطرة على الشعوب المرتبكة فكرا وثقافة، والمهزومة حضارة، حتى لكأنها، ولعقود متتالية لم يعد لأمة الإسلام ذكر بين الأمم، بوصفها أمة، بل وكاد رسمها أن يمّحِي من الوجود، لانشغال كل قطر بإثبات كونه كيانا منبتّاً عن أصله، فلم يزده سعي أهلِهِ في ذاك إلا هوانا عند جميع الناس.
إلا أن هذه الأمة، المكلومة، وهي تكتنز الخير كُلَّه، عقيدة لا إله إلا الله محمد رسول الله، كأنها تركت من سنة 1924م تاريخ سقوط عنوان عزِّها، دولة الخلافة، إلى سنة 1953، لحالها حتى تستجمع وعيها، ويعود إليها رشدها، لما انبجست بذرة الخير الكامنة فيها، في تلك السنة ومن الأرض المباركة فلسطين، من خلية الوعي الأولى فيها، حين أدركت ونادت في الأمة، أن منطلق نهضتها من الانحدار الشديد، الذي وصلت إليه وتحريرها من أفكار الكفر وأنظمته وأحكامه، ومن سيطرة الدول الكافرة ونفوذها هو الاستجابة لقوله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، فكان أن نشأ في الأمة بعد نكبتها العظمى؛ سقوط دولتها، أول حزب سياسي يتخذ من الإسلام مبدأ له بالمعنى الحقيقي للعمل السياسي، ليعمل بين الأمة ومعها لتتخذ الإسلام قضية لها، وليقودها لإعادة الخلافة والحكم بما أنزل الله إلى الوجود، على قاعدتي الدعوة إلى الخير، أي الدعوة إلى الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبذلك استعادت الأمة الإسلامية موقعها في الحياة، وصار لوجودها معنى، وقد استأنفت أولى مراحل حربها على الظلمات.
ظل الحزب يُفهم الأمة التي أسكرتها أفكار الغرب الضالة، وأذهلتها عن ذاتها، أن الله سبحانه قد ألزمها التقيد بأحكام الإسلام جميعها، في علاقاتهم بخالقهم، أو بأنفسهم، أو بغيرهم، وقد علموا أنّ الرسول ﷺ يقول: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ». غير أن الضعف الشديد الذي طرأ على أذهان المسلمين في فهم الإسلام وأدائه، جرّاء عوامل التّغشية على فكرة الإسلام وطريقته منذ القرن الثاني الهجري حتى الآن، شقّ بين الأمة والكيان المبدئي الذي نشأ من رحمها، خندقا عميقا جعلها لا تدرك حقيقة دعوته لها، فذهلت عن الحق الذي يدعوها إليه، وعن سبيل الوصول لتلك الغاية! فاضطر الحزب إلى أن يحدد زاوية النظر إلى حال الأمة، فأعلن فيها سنة خمس وستين من القرن الميلادي الماضي، نداءه إليها تحت عنوان "نداء حار إلى المسلمين من حزب التحرير"، صدّره بقوله: "أيها المسلمون، لا يرتاب أحد أنكم وصلتم إلى الحضيض في الهبوط الروحي، والتخلف المادي، والتأخر الفكري، والانحطاط السياسي. ولا يشك أحد أن العلاقات الإسلامية في مجتمعكم قد دمرت تدميرا تاما، وحلت محلها العلاقات الرأسمالية، أي علاقات أنظمة الكفر..."، فاتخذ من الصراع الفكري لعقائد الكفر وأنظمته وأفكاره، وللعقائد الفاسدة، والأفكار الخاطئة، والمفاهيم المغلوطة، ببيان زيفها وخطئها ومناقضتها للإسلام، لتخليص الأمة منها ومن آثارها. واستمر في حربه تلك زهاء أربعين سنة يعالج أدواء الأمة الفكرية، حتى أوهن سعي الكفار، فانتبهت الأمة إلى مدى الوهم الذي لفها بثقتها في أفكار الغرب المنحطة وغفلتها عن أفكار الإسلام الحنيف.
ولما استطال أمر الكفار على المسلمين وعلى بلاد الإسلام، وازداد خضوع حكامهم لأعداء الله ورسوله والمؤمنين، حتى عادوا لا يخجلون من إظهار خيانتهم وأضحوا رأس حربة الكافر فينا، وإثر حربي الخليج الأولى والثانية التي أوقد نارهما في ديارنا، وحين أعلنت رأس الكفر أمريكا أنها أمسكت بناصية الحياة وأنها صارت قدر العالم حتى استهانت بالحليف قبل الخصم، فأوقعت في الأمة هاجس الريبة من قوة أمريكا الضاربة خاصة بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر، واحتلال أفغانستان والعراق، فكان نداء حزب التحرير الثاني سنة 2005 ميلادية، يرشد الأمة ويلفت انتباهها إلى أنها أمة الحق وأنها حقا وصدقا خير أمة أخرجت للناس، فقال لها: "أيها المسلمون، إن الدول الكافرة المستعمرة ضخمة المظهر واهنة المخبر، إن لديها أسلحة كبيرة ولكنها لا تملك الرجال الكبار، والسلاح دون رجال ضعيف الأثر أمام فئة مؤمنة تتسلح دون سلاح العدو. والمأزق الخانق والمستنقع العميق الذي سقطت فيه أمريكا في أفغانستان والعراق رغم أسلحتها المتطورة ينطق بذلك..."، فأعاد إليها الثقة بنفسها وعرّى أمامها حقيقة عدوها.
ولما بان لكل ذي عينين أن سعي الغرب وعلى رأسه أمريكا في زعزعة الثقة بين المسلمين قد خاب، بعد أن نجح الحزب والمخلصون الآخرون من المسلمين، في إزالة هذه الزعزعة عند جمهرة المسلمين، وأنَّ خطواتِ المسلمين تسير نحو العمل للخلافة، كان نداء الحزب الممهور بعنوان: "النداءُ قبل الأخير... من حزب التحرير إلى الأمة الإسلامية بعامة... وإلى أهل القوة والمنعة فيها بخاصة"، يفتح أمام بصائرهم أن حقيقة القوة أصبحت اليوم إلى جانبهم فكان مما ورد في النداء: "هذا النداء قبل الأخير نتوجه به إليكم: نستنصركم فانضموا لمن سبقوكم بنصرتنا، ونمدُّ إليكم أيديَنا فشدوا عليها والحقوا بأهل مَنَعتِنا، فقد أوشك الركبُ أن يسير فشاركونا المسير ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً﴾، ونحن مطمئنون بنصر الله، ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾".
ها إنّ مرابطي غزة والشاميين قد وضعوا أمام الأمة، عياناً، حقيقة ما ظل الحزب يبينه للأمة لعقود، بأن عليها أن تقتعد مكانها في الحياة بوصفها أمة الإسلام، أمة الرسالة الخالدة التي ارتضاها خالق الكون والإنسان والحياة لعباده المؤمنين، وأن الأمر اليوم معقود بعد اليقين بنصر الله، بأهل النصرة من أبناء الأمة؛ جيوشها، وأن على هذه الجيوش أن تلتحم بالقيادة الواعية سياسيا، لتحسم أمر هذا الصراع الذي طال ليله مع العدو، على غير صعيده الحقيقي. فلا عذر اليوم لمعتذر بعد أن أوقفت الأمة الجميع أمام مسئولياته.
رأيك في الموضوع