لا يماري منصف سواء أحب أم كره، أن الجيوش في كل أمة كانت عبر التاريخ ولا تزال، هي صاحبة الموقف الحاسم والكلمة الفصل في أي نزاع سياسي أو حضاري. فالدولة تحدد سياستها الداخلية أو الخارجية بناء على قوة جيشها، بل الجيش هو الذي يحدد مكانة الدولة وهيبتها بين سائر الدول. فأمريكا تصنع قراراتها وتقيم علاقاتها بل وتعلن حربها وسلمها وتحدد قيمة دولارها مستندة إلى قوتها العسكرية؛ فالقوة العسكرية لأمريكا هي التي فرضت منها قوة سياسية أولى في العالم.
لا شك أن الثروة الفكرية لأية أمة هي الأساس، ولكن لا تأثير لهذه الثروة الفكرية إن لم تتخذ قوة عسكرية تسندها. حتى الاستعمار إذا أراد أن يغزو بلدا تراه يسعى لكسب ثقة القوة العسكرية لصالحه، بل ويعتمد عليها لتثبيت أمنه بعد أن يتغلب، فنجده يقيم سلطة أمنية له من أبناء البلد أو يدعو إلى تنسيق أمني مع القوى العسكرية المحلية. والمتابع لخط الثورات العربية يجد أن قرارات الجيش هي التي حددت مصير تلك الثورات وحسمت نهايتها.
من هنا فإن أي مشروع حضاري أو سياسي لا يضع صاحبُه في برنامجه خطةً لاستمالة القوة العسكرية هو مشروع إما واهم أو فاشل لا محالة، فأي مشروع يتبناه الجيش يصبح نافذا، وإخراج دور الجيوش من ذهنية الدعاة والسياسيين هو تنازل عن أكبر مركز للقوة في جعبتهم.
وعلى هذا وجدنا رسولنا المصطفى ﷺ تقصّد بشكل حثيث مراكز القوى في القبائل وسعى بجد واجتهاد إلى كسب ثقة أكبر قدر منهم. فماذا يعني دعاؤه «اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ»؟ ما المميز في سيدنا عمر رضي الله عنه إلا قوته التي طمع بها رسولنا ﷺ؟ حتى إن عتاب الله للرسول ﷺ في (عبس وتولى) كان بسبب شدة انصرافه إلى صناديد قريش يحاول إقناعهم.
ولا ندري كيف يغيب عن أصحاب الخطاب الإسلامي اليوم أن رسولنا الكريم ﷺ زار أكثر من 16 قبيلة يطلب منهم القوة والنصرة لرسالته «تؤمنوا بي... تؤووني.. تنصروني»، حتى غدا لهذا الواجب مصطلح شرعي يسمى "طلب النصرة" وسمي أصحابه بالأنصار الذين نالوا أعظم الدرجات، بل نستطيع أن نقول إن دولة المدينة قد أسست بقرار عسكري من الأنصار عليهم رضوان الله.
وقد أدى إهمال النخب الدعوية لأهمية وواجب مخاطبة الجيوش إلى أن حوّل الحكام جيوش الأمة إلى مؤسسات أمنية خاصة بهم؛ يعني نحن سلمنا جيوشنا للحكام عندما تركنا دعوتهم!
ولم يكتف هؤلاء بترك أبناء الجيوش بل حكموا عليهم بالردة أو الخيانة وناصبوهم العداء! وقد أدى هذا إلى أن تاه الدعاة بين شتى الوسائل الضالة لاستقطاب مصادر قوة لدعوتهم؛ فمنهم من مد يده إلى محاور إقليمية يستجدي منها السلاح والدعم فجاءه السلاح المشروط الذي جعله تابعاً للقوى المانحة فضلّ وأضلّ. ومنهم من لم يجد بُداً من الارتماء في أحضان الحكام طالبا مشاركتهم السياسية، زاعما تحقيق المصالح أو التدرج في تطبيق الشريعة، فلا شريعة طبق ولا مصلحة حقق، بل غدا جزءا من منظومة الحاكم ومسحوق تجميل لوجهه البشع! كما تورط فريق منهم بمغامرات مسلحة جلبت على البلاد الويلات والخراب.
والحقيقة التي غفل عنها الكثير هي أن جيوش المسلمين ما هي إلا انعكاس لأبناء المسلمين، فيهم الخائن والمنافق، وفيهم التقي والمخلص، يألمون لما نألم ويسعدون لما نسعد. فجيش مصر مثلا كما أخرج أنور السادات فقد أخرج خالد إسلامبولي قاتل السادات، وأخرج جيش تركيا مولود ألتنطاش قاتل السفير الروسي، ولا زلنا نرى في كل أزمة نماذج مماثلة...
فالجيوش هي ملك الشعوب لا ملك الحكام ولا الغرب، والأمة هي المصدر الوحيد والمدد الدائم لهم، فهي أمهم وأبوهم. لذلك كنا نحن الأولى باستمالتهم والأجدر بنيل ثقتهم.
وقد تنبه الحكام إلى خطورة الدور المفصلي للجيوش فحالوا بينهم وبين الخطاب الدعوي المؤثر، بل وعملوا جاهدين على تجهيل القوات العسكرية ووضعهم في مواجهة أمتهم.
وقد آن الأوان أن يعي الدعاة اليوم إلى الأهمية القصوى لدور القوات العسكرية التي تملكها أمتنا والتي تعد من أبرز القوات وأقواها في المنطقة... آن الأوان أن نسترد أبناءنا ونخاطبهم خطاب المشفق لا خطاب الخصيم.
إن الأرض المباركة فلسطين أرض محتلة مغصوبة، وهي بذلك أرض جهاد، الواجب هو تحريرها وإعادتها إلى حظيرة الإسلام. والجهاد الذي يحرر البلاد ويقصم المعتدي لا يكون بمقاومة مفرقة هنا وهناك، فإن المقاومة وإن طلبت للدفاع عن النفس والنكاية بالعدو، إلا أنها ليست بديلا عن الجهاد الذي يزيل الاحتلال ويقيم العدل. كما أن هذا الجهاد المطلوب يحتاج قيادة مخلصة من أبناء الأمة وراية طاهرة ومنهجا نبويا يستحق نصر الله وتأييد ملائكته. بهذا وحده فتحت فلسطين بخيل عمر، وحُررت بسيف صلاح الدين، وحُفظت برفض عبد الحميد رضي الله عنهم جميعا.
هذه المسلمات التي بات أطفال المسلمين يعرفونها؛ جهاد وراية وقيادة، لا تتحقق بوجود طواغيت رهنوا البلاد لمصالح الغرب وحالوا بين الأمة وبين نهضتها واستئناف الحكم بشريعة ربها. لأجل ذلك كان الطريق الوحيد لاستعادة سلطان الأمة هو أن يتوجه الخطاب المؤثر؛ العام والخاص، إلى ضباط الجيوش المسلمة لإخراجهم من بوتقة الحاكم، وإعادتهم إلى حضن أمتهم الدافئ، ورسم الخطة المحكمة التي يتزاوج فيها مشروع الدعوة المخلصة مع أقوياء الأمة المتعطشة للنصر، فيؤدي هذا الزواج الميمون إلى ولادة حكم إسلامي راشد يقلب عهد الجبرية النكد إلى خلافة تطهر الأرض وتحمي العرض.
يجب أن يتوجه الجميع اليوم، أحزابا وعلماء ومؤسسات... إلى الرأي العام الإسلامي، بتقصد ضباط المسلمين كما تقصدهم رسولنا ﷺ وأقام معهم أول دولة للإسلام. فالرأي العام هذا هو ما يخافه الحكام ويعملون على تضليله ليل نهار، هو قوة في يدنا لا يملك الطغيان التغلب عليه كما لم يستطع فرعون مواجهة الرأي العام عندما مال لصالح سيدنا موسى.
فيا أيها الأقوياء الذين خاطبهم الله بقوله: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾، ودعا لهم رسولنا الكريم ﷺ: «اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ»، أنتم لستم أبناء الحكام الذين يحرسون الأعداء بكم، بل أنتم أبناء أمتكم العظيمة والموعودة بكل خير. أمتنا اليوم تشهدون أزماتها، فتذكروا أن رسولكم كان ينادي في أزماته الأقوياء «اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ»، وكأني به اليوم في هذه النكبات ينادي "اللهم انصر الإسلام بأحب الجيوش إليك"، فإلى هذا الشرف العظيم ندعوكم وإلى عز الدارين نطلبكم، فهل من مجيب؟
بقلم: الشيخ أحمد الصوفي (أبو نزار الشامي) – ولاية لبنان
رأيك في الموضوع