المقصود بالقوانين الدولية هو مجموعة القوانين والأعراف والنظم التي يجتمع عليها العالم، ويجمع على شرعيتها، وتكون هي المرجعية والحَكَم في تحديد العلاقات الدولية فتضبط سلوك الدول في الحرب والسلم وفي القضايا المشتركة، وما يؤثر على السلم العالمي، وعلى الأمور الحساسة الدولية، مثل المناخ والبيئة والنواحي الإنسانية، والصحة وغير ذلك من أمور مشتركة عالمية.
وقد كانت هناك أعراف وقوانين وعلاقات مشتركة تحكم العالم طوال فترات التاريخ على مر العصور، فكانت على سبيل المثال القوانين التي تحكم الحروب، وتبادل الأسرى بعد الحرب، وقوانين السفراء والرسل، وكان في أيام الجاهلية قانون وأعراف الأشهر الحرم، وعدم القتال بين قبائل العرب فيها. وكانت في مكة وثيقة متعارف عليها هي حلف الفضول؛ لنصرة المظلوم ودفع الظلم عنه. وكانت في القرون الوسطى أعراف الكنيسة بين دول أوروبا. وفي العصر الحديث سبقت فترة الحربين العالميتين القوانين الصادرة عن منظمة السلام الدولية عام 1889 التي سبقت عصبة الأمم المتحدة الأوروبية سنة 1919 أي بعد الحرب العالمية الأولى. أما بعد الحرب العالمية الثانية فاجتمعت الدول المنتصرة، وشكلت قانونا جديدا وأعرافا جديدة ليسير العالم عليها هي قوانين الأمم المتحدة، وأصبحت هي المرجعية الدولية لكل الدول الأعضاء في هذه المنظومة؛ فكانت شبه إجماع دولي دخلت فيه جميع الدول في العالم تقريبا. لقد ظلت الأمم المتحدة بمؤسساتها الدولية هي المرجعية لأمور السلم والحرب، والاقتصاد والبيئة والتعليم والصحة، وغير ذلك من أمور، إلا أن التغيرات التي حصلت في العالم بعد سنة 1990، أي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي أحدثت فجوة في العالم من هذه الناحية، وصار العالم يتجه في طرق أخرى أضعفت كثيراً موضوع الشرعة الدولية، والقوانين المتفق عليها لدرجة أن كثيراً من هذه القوانين صارت غير فاعلة، ولا تأثير لها دوليا.
لقد أصبح العالم اليوم نتيجة الوضع العالمي الجديد الذي أنتجه غياب الدولة المنافسة والندّ لأمريكا، أصبح يتجه نحو التكتلات والأحلاف الدولية، بدل القانون العالمي العام المشترك، أو حتى بدل الوفاق بين المعسكرين الكبيرين على الأقل، وذلك بسبب الخلل الكبير الذي أصاب القوانين العامة والأعراف الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. فهل سيصبح العالم أمام مرحلة جديدة هي مرحلة التكتلات والأحلاف بدل الشرعة الدولية؟ وماذا سيترتب على هذه المرحلة الجديدة من حيث رسم سياسة العالم في الحرب والسلم، والأمور المشتركة كالمناخ والبيئة والفقر في العالم، ومساعدة الدول الضعيفة، ومواجهة الكوارث الطبيعية... وغير ذلك من أمور مشتركة؟!
وقبل الإجابة على هذه الأسئلة نريد أن نقف على بعض التكتلات الدولية الحديثة والقديمة والغاية من إنشائها:
- لقد أنشأت الدول النصرانية في بداية العصور الوسطى الحلف الكبير ضد الدولة الإسلامية؛ والذي من خلاله خاضت مرحلة ما تسمى بالحروب الصليبية واحتلال ديار الإسلام، وكان مركز هذا الحلف في روما والقسطنطينية، ومنها كانت تنطلق الجيوش نحو بلاد المسلمين، واستمرت أكثر من مئتي عام.
- أنشأت الدول النصرانية ما يسمى بتحالف بعض الدول الأوروبية في بدايات العصر الحديث، فيما سمي بالمسألة الشرقية؛ وكان هدفها الأول الوقوف في وجه توسع الدولة الإسلامية نحو أوروبا. ثم صار هدفها القضاء على الدولة الإسلامية المتمثلة بالخلافة العثمانية وهزيمتها وتمزيقها. وفعلا نجح هذا التكتل في تحقيق غايته على حين غفلة وضعف من المسلمين. وبعد الحرب العالمية الأولى أنشأوا ما سمي بعصبة الأمم عام 1919، وكان من أهدافها تقسيم تركة الدولة العثمانية وتمزيقها.
- سبقت مرحلة الحربين العالميتين الأولى والثانية تكتلات دولية كانت سببا في إشعال هذه الحروب لسنوات عدة استمرت من سنة 1914 إلى سنة 1918 وجمعت قوات الحلفاء (الوفاق الثلاثي)، وهي: المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وإيرلندا والجمهورية الفرنسية الثالثة والإمبراطورية الروسية، ضد الحلف المقابل (دول المركز): الإمبراطورية الألمانية والإمبراطورية النمساوية المجرية، والدولة العثمانية ومملكة بلغاريا. ثم جاءت الحرب العالمية الثانية من سنة 1939 إلى سنة 1945 بين دول الحلفاء ودول المحور. وتضم دول الحلفاء بشكل رئيس: بريطانيا، فرنسا، الاتحاد السوفيتي، الولايات المتحدة. أما دول المحور المقابل فتضم بشكل أساسي: ألمانيا وإيطاليا، ثم انضمت إليهما اليابان والنمسا ورومانيا وبلغاريا والمجر ويوغسلافيا.
- بعد الحرب العالمية الثانية، ورغم الإجماع الدولي على قوانين هيئة الأمم، إلا أن العالم واصل موضوع التكتلات والأحلاف؛ فكان حلف الأطلسي بين الدول الغربية - على رأسها أمريكا وبريطانيا - في مقابل حلف وارسو الشرقي الذي ضم دول المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي. وبعد انهيار الفكر الاشتراكي ومنظومته تفكك حلف وارسو، إلا أن أمريكا أبقت على حلف الأطلسي لغايات تريدها في تسخير أوروبا في أمور استعمارية جديدة، ولتنوب عنها في حروب وأعمال خارج أرضها.
- حاولت الدول الأوروبية القيام بأعمال لإيجاد تحالف بينها يسمى الوحدة أو الاتحاد الأوروبي يخفف من تسخير أمريكا لها، واستنزافها في خدمة مشاريعها اقتصاديا وسياسيا، إلا أن هذا المشروع ما زال يعاني من الفشل اقتصاديا وسياسيا وعسكريا. وحاولت أمريكا منع إتمامه، وإبقاءه ضمن دائرة لا يتجاوزها، وشجعت بعض الدول للخروج منه مثل بريطانيا.
- هناك بعض التكتلات الاقتصادية أو القوانين التي تؤثر بالفعل في سياسة العالم مثل الدول الصناعية السبع، ومجموعة العشرين، وتكتل آسيان، ومجموعة بركست... وغيرها من تكتلات على شاكلتها. أما القوانين فهي مثل منظمة التجارة الحرة، ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والتعرفة الجمركية (الجات)، وميثاق هافانا للتجارة الدولية، وقوانين أخرى تحكم العلاقات التجارية والأسواق والتبادل بين الدول.
- في السنوات الأخيرة تشكلت تكتلات سياسية وأحلاف عسكرية تظهر في الساحة الدولية، وتؤثر في رسم سياسة العالم، وتسعى إلى تحجيم دول أخرى وردعها. ومن هذه الأحلاف؛ الحلف الاستراتيجي بين الصين وروسيا، وسمي (بالشراكة الاستراتيجية بلا حدود) سنة 2022، وما تبعه من أعمال في مناطق بحر الصين وحول جزيرة تايوان.
- أنشأت روسيا كذلك أكثر من تكتل اقتصادي وعسكري بينها وبين الدول المستقلة من منظومة الاتحاد السوفيتي، منها على سبيل المثال: كومنولث الدول المستقلة، وهي روسيا وأرمينيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وأوزبيكستان، ومعاهدة الأمن الجماعي وتضم روسيا البيضاء والاتحاد الروسي، وبقية الدول في آسيا الوسطى والقوقاز. وهذه الأحلاف الهدف الأول منها هو الوقوف في وجه امتداد أمريكا وتوسعة نفوذها نحو دول المنظومة الاشتراكية السابقة. أما الهدف الثاني فهو التقوّي بهذه الدول ضد الأعمال العسكرية الغربية.
- قامت أمريكا بإنشاء وتعزيز أحلاف عسكرية من الدول المحيطة بالصين على وجه الخصوص، أو القريبة منها، مثل حلف أوكوس وحلف كواد، وهي أحلاف القصد منها الوقوف في وجه الصين لتحجيمها وإضعافها، ومنع توسعها نحو تايوان بضمها. ثم وسعت هذه الأحلاف وضمت لها دولا جديدة. وقد قامت أمريكا بالفعل بمناورات مشتركة في بحر الصين والمناطق القريبة من تايوان.
رأيك في الموضوع