تنامت ظاهرة الإضرابات عن العمل في قطاعات خدمية وإنتاجية عديدة في السودان، وشملت كذلك الأسواق احتجاجاً على زيادة الضرائب، وضعف الأجور، وتدهور الأوضاع المعيشية، مطالبة بزيادة الأجور وتطبيق الهيكل الراتبي الجديد، وأعلنت قطاعات التعليم العام انطلاق رحلة البحث عن زيادة الأجور والأمان الوظيفي تحت قيادة لجنة المعلمين.
خلال معظم تاريخها سيطرت على حركة النقابات العمالية في السودان قيادات جعلت سلوكها البيروقراطي وآراءها السياسية (الشيوعية) غير قادرة على قيادة الطبقة العاملة بنجاح، في المواجهات مع سياسات الدولة، ومعظم الأحيان النقابات مسيرة لسياسة الدولة بدلا من الوقوف مع العمال! لذلك فمعظم العمال لا يثقون أبداً في النقابات، لكن بعد التحول الذي حدث عام ٢٠١٨م، استعادت النقابات المهنية ثقة العمال في إحداث تغيير في أحوالهم نتيجة لمشاركة تجمع المهنيين في حراك الشارع ضد النظام البائد.
إن فكرة الإضراب العام هي فكرة شيوعية لإيصال الحركة العمالية للإضرابات المفضية إلى تمكينهم من السيطرة على مقاليد الحكم فيما اصطلحوا عليه بالصراع الطبقي، وتبلورت فكرة الإضرابات عن العمل للمرة الأولى في بريطانيا في ثلاثينات القرن التاسع عشر على يد ويليام بينبو، الذي ينتمي إلى جناح (القوة المادية) في الحركة التشارتية، والذي قام بترويج الدعوة إلى (إجازة قومية) أو توقف الطبقة العاملة بكاملها عن العمل، ورأى أنها ستحقق نصراً سريعا للطبقة العاملة، ثم انتشرت الفكرة في العالم. هذا هو واقع فكرة الإضرابات من الناحية السياسية كأسلوب من الأساليب الذي تستخدمها المعارضة الشيوعية لتطبيق مبادئها، مع أساليب أخرى مثل العصيان المدني، وتتريس الشوارع كورقة ضغط على الدولة لتنفيذ مطالبهم أو لزعزعة استقرار الأوضاع السياسية في البلاد، مظنة إنصاف العمال وتحقيق مطالبهم.
إن الإسلام العظيم قد حفظ للعمال حقوقهم، فلا فرق بينهم وبين بقية أفراد المجتمع، فمنحهم من رعايته وعنايته ما يكفل لهم الحياة الطيبة الكريمة، بعد أنْ كان العمل في بعض الشرائع القديمة والحديثة معناه الرّق والتَّبعية، والمذَّلة والهوان، ويُعد أجر العامل هو أهم التزام يُلزم به صاحب العمل، ولذلك عني به الإسلام عناية بالغة؛ وحث النبي ﷺ على تعجيل إعطائه الأجرة بعد انتهاء عمله، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ» ويحض النبي ﷺ أمته على رعاية حقّ الأجير، وتأدية أجرته إليه دون تأخير ولا مماطلة. وقوله ﷺ: «قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ» هو تأكيد لأمره بإعطائه حقه بأقصى سرعة، فالإسلام يأمر بوجوب المبادرة بسداد الأجر عقب الفراغ من العمل دون تباطؤ، بل الإسراع بإيفاء الأجرة، وترك المماطلة.
ولا يجوز له أن يظلمه، ولا أن ينقص أجرته، أو مماطلته فيها، فإن فعل شيئا من ذلك فقد ارتكب ظلماً فادحاً يستحق عقوبة تعزيراً، والله تعالى ذمَّ الظلم والظالمين في كتابه؛ فقال عز وجل: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾، وما هلكت الأمم السابقة إلا بظلمها، وبغيها، وتعديها على الضعفاء، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾. ذكر الحافظ ابن حزم في المحلى في باب الزكاة: "أنّ على الدولة أنْ توفّر للعامل الغذاء الكافي، والكساء الكافي، والمسكن الذي يليق بمثله، وأنْ تستوفي فيه كل المرافق الشرعية، ويجب أنْ تكون الأجرة محققة لكل هذا، وإلا كان ظلماً".
كما كفل الإسلام حق العامل في الحصول على حقوقه التي اشترطها على صاحب العمل: فيجب على صاحب العمل أنْ يُوفي العاملَ حقوقه التي اشترطها عليه عند تعاقده معه، وألاّ يحاول انتقاص شيءٍ منها فذلك ظلمٌ عاقبته وخيمة، وألا ينتهز فرصة حاجة العامل الشديدة إلى العمل فيبخسه حقه، ويغبنه في تقدير أجره الذي يستحقه نظير عمله. فالإسلام يحرم الغبن، قال تعالى: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾، فيحذر سبحانه وتعالى أن لا تنقصوا الناس حقوقهم التي يجب عليكم أنْ توفوهم إياها، كيلاً كان، أو وزناً أو غير ذلك.
كما أوجب الإسلام على صاحب العمل أنْ يحفظ حق العامل كاملاً إذا غاب أو نسيه، كما يجب عليه ألاّ يؤخر إعطاءه حقه بعد انتهاء عمله، أو بعد حلول أجله المضروب. كل هذا العدل والإنصاف في شرع الله الذي تطبقه دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة القائمة قريباً بإذن الله.
رأيك في الموضوع