قبل الحديث عمن يقف وراء الاقتتال في النيل الأزرق، لا بد من وضع القارئ في صورة المنطقة، فإقليم النيل الأزرق هو الجنوب الجديد للسودان بعد انفصال الجنوب وقيام دولة جنوب السودان، وسمي الإقليم باسم نهر النيل الأزرق الذي يمر عبر الإقليم، ويلتقي بالنيل الأبيض في الخرطوم مكوناً معه نهر النيل. ويعيش في هذا الإقليم مجموعات من القبائل أشهرها البرتا، والفونج، والأنقسنا، والهوسا وغيرهم.
من المعلوم أن منطقة النيل الأزرق هذه لم تشهد في الماضي مثل هذا الصراع وبهذه الصورة المأساوية، والتي بدأت في تموز/يوليو الماضي إثر مطالبة قبيلة الهوسا بنظارة لهم أسوة بغيرهم، ما أثار أصحاب النظارة القديمة، الذين رأوا أن قبيلة الهوسا تريد أن تمتلك الأرض، وأن يكون لها سلطان، وهذا ما لا يريدونه، ومن هنا بدأ الصراع حيث قتل العشرات، وجرح المئات، وهُجر الآلاف. وعلى طريقة الحكومة في حل النزاعات أقامت بين المتصارعين صلحاً لا يمس جوهر القضية، ولا ينصف المظلومين من الظالمين، فلم تمر على هذا الصلح المزعوم سوى أقل من ثلاثة أشهر حتى اندلع الصراع هذه المرة بصورة أفظع وصلت حد حرق الناس في منازلهم، حتى تفحمت الجثث في منظر تقشعر له الأبدان، وقتل المئات، ونزح الآلاف من مناطقهم هرباً من الموت والقتل والحرق، ولم تتدخل الحكومة لإيقاف هذا الهرج إلا بعد أن حصدت الحرب الأرواح من النساء والشيوخ والأطفال، ما يؤكد تواطؤ الحكومة في هذا النزاع وتقاعسها عن القيام بواجبها في توفير الأمن والأمان للناس في هذه المنطقة.
إن الحكومة كانت تعلم بأن هناك اقتتالا سيحدث نتيجة للخطاب السياسي العنصري الذي انتشر في مواقع التواصل، وتم تداوله بكثافة، ما أجج الصراع، وأوغر الصدور وعاد بالناس إلى الجاهلية، كل يناصر قبيلته سواء أكانت على حق أم كانت على باطل، حاديهم في ذلك الشاعر الجاهلي الذي قال: (وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد)! حتى صار القاتل لا يدري فيما قَتل ولا المقتول فيما قُتل!!
والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا المطالبة بالنظارات من هذه القبيلة أو من تلك في هذه الظروف وهذا التوقيت بالذات؟ من الواضح أن سبب المطالبة هو سبب سياسي وأن وراءها مكاسب سياسية لبعض السياسيين الذين يريدون الاستقواء ببعض القبائل على بعضها، ولا يهمهم الدماء التي تسفك، ولا الأرواح التي تزهق ما دام في ذلك مصلحة شخصية لهم، وهم في ذلك مثلهم مثل أسيادهم الذين ابتدعوا في السابق، عندما كانوا حكاماً للسودان، مسألة ما يسمى بالإدارة الأهلية التي تكون دائماً للقبيلة الكبرى في المنطقة، ويكون منها الناظر الذي له سلطة سياسية وقضائية ومالية على جميع من يسكنون معه في الأرض، التي تسمى حاكورة باسم قبيلة الناظر، ولا حق لغير القبيلة في هذه الحاكورة إلا أن يرضى من جُعلت لهم، وهذا الوضع هو الذي يوجد الصراعات بين القبائل، وبخاصة بعد ما سمي بالاستقلال المزعوم، حيث سار حكام السودان على نهج المستعمر نفسه، وزادوا في ذلك بالاستقطاب على الأساس القبلي، كل يسعى لتكون هذه القبيلة أو تلك في صفه عند الانتخابات، بل حتى في عهد الإنقاذ التي صنعت قيادات جديدة في مناطق نفوذ الأحزاب القديمة ما أوجد أيضاً النزاع والصراع اللذين ما زالت آثارهما حتى اليوم في دارفور وكردفان وشرق السودان والنيل الأزرق، وقبلها جنوب السودان الذي انفصل بفعل السياسيين من أهل السودان، وبمؤامرة الكافر المستعمر.
إن هذه المفاهيم الاستعمارية ما زالت متركزة حتى اليوم عند السياسيين، ويكفي مثال واحد صارخ على ذلك، وهو ما جاء في مسودة دستور اللجنة التسييرية لنقابة المحامين، والتي يراد لها أن تكون دستوراً للفترة الانتقالية في السودان، وأساساً للتسوية الجارية هذه الأيام، فقد جاء في المادة 38/8: (المحافظة على الحقوق التاريخية للمكونات المحلية من الأراضي والموارد)، فالحقوق التاريخية هي الحقوق التي أعطاها الكافر الإنجليزي المستعمر للقبائل من أراض وحواكير ونظارات، وهي في حقيقتها عطاء من لا يملك لمن لا يستحق.
إن هذه المشاكل ما كانت لتوجد لو التزم أهل السودان منذ خروج المستعمر الإنجليزي من البلاد، وأعادوا حكم الإسلام في الأراضي والسياسة والحكم وغيرها، إلا أنهم ارتضوا أن يحكمهم عملاء المستعمر، وأن يطبق عليهم أنظمة الكافر المستعمر، وقوانينه في الحكم والاقتصاد والأراضي حتى تفاقمت المشاكل، وصارت كأنها مستحيل حلها، ولكننا نقول إن حلها أسهل مما يتصور، فقط مطلوب من الجميع؛ سياسيين، حكاماً ورعية، أن يعودوا إلى الإسلام وتطبيق أحكامه في ظل دولة الإسلام التي حددها رسول الله ﷺ؛ خلافة راشدة على منهاج النبوة، التي ستقوم فوراً بإلغاء ما يسمى بالإدارة الأهلية، وبالتالي إلغاء نظام الحواكير، فيصبح الناس سواسية في الأرض التي يعيشون فيها بعضهم مع بعض، لا سلطان عليهم من أحد إلا سلطان الإسلام، ولا أحكام تطبق عليهم إلا أحكام الإسلام التي تسمح لأي فرد من أفراد الرعية أن يمتلك الأرض للزراعة أو السكن أو التجارة أو الصناعة أو غيرها تملكاً فردياً لا دخل للقبيلة فيه.
أما المراعي والأحراش والغابات فإنها من الملكيات العامة التي ينتفع منها الجميع كما قال ﷺ: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ الْمَاءِ وَالْكَلَإِ وَالنَّارِ»، ثم إن واجب الدولة أن تضمن الحاجات الأساسية لكل فرد من أفراد الرعية من مأكل وملبس ومسكن، وأن تضمن حاجات الجماعة من التطبيب والتعليم والأمن، وبذلك تنتفي الصراعات والنزاعات، وتصبح القبيلة فقط للتعارف والتواصل وصلة الأرحام، لا تفاضل بينها أو بين أفرادها كما قال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾.
* الناطق الرسمي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع