إن التنسيق والتفاهمَ حالياً في القضايا الكبرى بين الدولتين الاستعماريتين بريطانيا وفرنسا في إحكام القبضة على مقدَّرات الجزائر وفي رسمِ سياساتها خاصةً على الصعيد الخارجي لا تخطئه عين المراقب، إلا أن هذا لا يلغي التنافس أو حتى التطاحن بين الأطراف والأدواتِ المحلية، خاصةً بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، هذا التنافس الذي قد يتحول في أية محطة من المحطات إلى صراع شرس بين أجنحة السلطة على المصالح والنفوذ. وهذا ليس في الجزائر فقط وإنما هو في دول شمال أفريقيا كلها وأيضا فيما بينها، إلا أنه في الحقيقة لا يعدو كونه صراعاً بين الأدوات، وهو أبعد ما يكون عن التصفية، بحكم عراقة النفوذِ الاستعماري الأوروبي المتعدد في هذه الكيانات الخاضعة والتابعة، وبحكم الخلفية التاريخية لنشأتها. إذ إنَّ هذا الصراع أيضاً هو جزء من اللعبة التي تدار بها هذه البلدان؛ وذلك أولاً: للتحكُّم في مستوى الاستقرار فيها على مختلف الأصعدة وفق مقتضيات المرحلة والظرف، ضمن ما يحقق في النهاية مآرب ومصالح بريطانيا وفرنسا، بتسخير هذه البلدان إقليمياً سياسياً وأمنياً وعسكرياً وحتى ثقافياً وإعلامياً عبر أنظمتها التابعة والخانعة. وثانياً: مواجهة التحدياتِ في الداخل أو احتواء الانتفاضات وإخماد التحركاتِ الشعبية المحتملة، كلما اقتربت الأمور من حالة التعفن أو الانهيار، إذ إن مِن طبيعة ذلك أنه يتكرر بين الفينة والأخرى بالنظر إلى القبضة الحديدية والقمع والإقصاءِ والنهب وسوء الرعاية المفروضة على الشعوب والقهر. ناهيك عن التنسيق على أعلى المستويات فيما بين هذه الدول الأوروبية. وثالثاً: ضمان تلك المصالح، التي ليس أقلَّها:
- كبت شعوب هذه الدول الهزيلة المقهورة في سجن الوطنية الوضيعة ومنعها من النهوض والتحرر الحقيقي بالعودة إلى الإسلام على مستوى الحكم. وهذا يمثل أهم ما يؤديه حكام الضِّرار الأقزام في سائر بلاد المسلمين لأسيادهم من أدوار.
- امتصاص الثروات من كل نوع من باطن الأرض ومن ظاهرها، وإبرام الصفقات بمليارات الدولارات في السلاح والغذاء وغيره لنهب مداخيلها. إلا أن طرق نهب مداخيل هذه الدول الريعية المكلومة متنوعة وتكاد لا تحصى، منها القروض والمشاريع باسم الشراكة.
- التمكين للشركات الأوروبية والغربية عامةً في الاستثمارات، والاستحواذ على الأسواق لمنتجاتها. ومن ذلك استيراد السلع والبضائع من كل صنف، وتوريد المعدات والتجهيزات باهظة الأثمان.
- جلب العمالة الرخيصة خاصة من الشباب في جميع المجالات، واستقدام الكفاءات وتهجير الأدمغة "المشتغِلة" من أصحاب العلوم والمهارات من المثقفين والمتعلمين إلى الدول الأوروبية وبلاد الغرب عامةً من خلال الترشيح ثم القبول عبر قوانين مرتبة ومصممة بإحكام لاستقطاب ما يلزم الأوروبيين من الأيدي العاملة والعقول.
- استقدام الفاعلين سياسياً بغرض تحييدهم وإبعادهم عن ميادين الصراع السياسي مع الأنظمة العميلة، لتكريس حالة التردي والضياع بتثبيت عروشِ الحكام، وتأهيل هؤلاء الفاعلين وتهيئتهم لأدوار مستقبلية خاصة خلال الثورات أو الانتفاضات أو ما بعدها.
كما أن لدول شمال أفريقيا وللجزائر تحديداً أهمية بالغة في:
- وقف الهجرة إلى أوروبا من البلدان الأفريقية المكلومة والمنهوبة من طرف هؤلاء الأوروبيين أنفسهم.
- تسخير هذه الكيانات أيضاً سياسياً وعسكرياً وأمنياً وكذلك دبلوماسياً وإعلامياً في مواجهة التحديات على المستوى الدولي عبر تفعيل أدوارِها دولياً وإقليمياً، لقطع الطريق على الاستعمار الجديد من خلال التعاون من أجل تثبيت الوضع الاستعماري القديم وضرب الخصوم تحت عنوان (مكافحة الإرهاب)، أو التهريب، أو غير ذلك، في ظل التحديات العالمية والصراعات الدولية، خاصة على ثروات القارة الأفريقية.
هذه هي بعض المصالح والمنافع التي تحافظ عليها فرنسا وبريطانيا الاستعماريتان في هذا الجزء من البلاد الإسلامية الغنية والشاسعة، في غياب دولة الإسلام (الخلافة) التي تحول بينهم وبين هذه الجرائم؛ لذا كان من أعظم مصالح الرأسماليين الأوروبيين والغربيين بشكل عام منع قيام الخلافة أو تأخير قيامها.
وقد ظلت دول شمال أفريقيا ومنها الجزائر على وجه الخصوص يدير أمورها العملاء لأداء هذه الأدوار على هذا النحو منذ عقود، بتوظيف بعض فئات الشعب ضد بعض، في مشاهد صدامية متكررة غالباً ما تكون على حساب دماءِ المسلمين وأرواحهم فضلاً عن أموالهم، ضمن التفاهمات الكبرى بين المستعمرين الأوروبيين الممسكين بالمنطقة، بالرغم من أن التنافس بينهم قد يصل أحياناً إلى ما قد يبدو للمتابع صراعَ تصفيةٍ بين الأطراف المحلية، ولكنه قلَّما يصل إلى ذلك في الحقيقة، ولا يبلغ درجة كسر العظام مطلقاً. فلا فرنسا تستغني عن دهاء الإنجليز وقدراتهم في تسيير شؤون المنطقة ومواجهة التحديات على المستوى الدولي، ولا بريطانيا تستغني عن تسخير خدمات فرنسا والاستقواء بها لتحقيق أغراضها وتثبيت نفوذها في المنطقة بوضعها في الواجهة في الكثير من البلدان، حتى لا يكاد يُعثر لحضور بريطانيا في المشهد على أثر!
وإنه وإن كان جليا أنَّ نفوذ فرنسا في الجزائر ظاهر غير خفي، وأنَّه يلمس ويرى في جميع مفاصل الدولة وعلى جميع المستويات، كالإدارة والثقافة وقطاع التعليم وغيره، وكذلك في الجيش من خلال الضباط المندسين من أيام الثورة، ومِن خلال الأزلام والأتباع والمضبوعين، فإن الوجود البريطاني في المنطقة وجود خفي يكاد لا يرى بالعين المجردة إذ كان من سياسة بريطانيا عدم مواجهة أمريكا في كل مناطق نفوذها خاصة في بلاد المسلمين منذ عقود، أي منذ أن قررت أمريكا أخذها منها منذ مطلع الخمسينات، وهو ما يعني المسايرةَ في الظاهر في القضايا الدولية والإقليمية ومزاحمةَ أمريكا بالطرق الذكية والأساليب الخفية، ومن ذلك مثلاً استخدام أدواتها من القوى السياسية والأطراف الإقليمية واستدعاؤها للمهام المطلوبة كقطر والإمارات وغيرها بحسب الغرض والحاجة. فلا يخفى على المتابع مثلاً الأدوار الوظيفية المهمة المسندة لدويلة قطر على الصعيد العالمي لفائدة الإنجليز في ميادين السياسة والثقافة والإعلام وحتى في مجال الرياضة، ولا تلك التي تضطلع بها دويلةُ الإمارات في تثبيت أو دعم الأنظمة على الصعيد السياسي والعسكري والأمني وحتى الاقتصادي في دول الشمال الأفريقي كليبيا والجزائر وحتى في اليمن وغيرها، خاصةً خلال الأزمات والصراعات السياسية أو العسكرية والتحولات المفصلية حيث يصارع الإنجليز على النفوذ أو البقاء. كما لا يخفى ما لها في الجزائر من حضور في ميدان تسيير الموانئ وفي صناعة وتجارة التبغ واسعِ الاستهلاك في البلد، وفي قطاع البناء والتعمير وصفقات التموين (كوسيط) بالمعدات والمركبات العسكرية من ألمانيا، وغيرِ ذلك...
ومن سياسة بريطانيا أيضاً الاستفادة من خدمات فرنسا بوضعها في الواجهة في الكثير من قضايا شمالِ أفريقيا والجزائر تحديداً، لكيلا تصطدم هي دولياً مع أمريكا من جهة، وكذلك للتمويه والتعمية على أهل المنطقة بإدخالهم في حالة متقدمة من الضبابية السياسية والفكرية والتيه، يستحيل معها على غير المتابعين عن كثب فهم ما يجري.
رأيك في الموضوع