هناك أسئلة عدة يطرحها السياسيون والمتابعون للشئون الأمريكية هذه الأيام؛ وخاصة في ظلّ الأجواء المحمومة داخليا وخارجيا المرتبطة بالسياسات الأمريكية، أو المرتبطة بالوضع الاقتصادي المتقلب والمتأرجح. من هذه الأسئلة: ماذا لو اكتسح الجمهوريون انتخابات الكونغرس النصفية في شهر تشرين الثاني القادم؟ وما تأثير ذلك على السياسة الخارجية والداخلية للحكومة الحالية برئاسة الديمقراطيين؛ الخارجية في الحرب الأوكرانية، والداخلية في أمور الميزانية والتضخم وغير ذلك؟ والسؤال الثاني: ماذا سيحصل لو استطاع الحزب الديمقراطي إبعاد ترامب عن موضوع الترشح للانتخابات الأمريكية القادمة بعد سنتين؟ وماذا لو استطاعوا تلفيق التهم له عن طريق القضاء ومحاكمته على ذلك؟
والحقيقة أن الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها مما يتعلق بهذا الأمر، يقودنا إلى موضوع الصراع المتأزّم والمتنامي اليوم في المجتمع الأمريكي، ويقودنا أيضا إلى تاريخ الصراع المرير الذي مرت به أمريكا سابقا؛ سواء أكان بين الشمال والجنوب، أو بين السود والبيض، أو غير ذلك من صراعات دموية استمرت سنوات عديدة.
إن هناك ثلاثة أمور لا تنفصل عن أي أمر سياسي في أمريكا، وتؤثر على هذا الصراع بطريقة أو بأخرى:
الأول: هو التشكيلة العرقية السيئة التي تشكل بموجبها المجتمع في أمريكا، وبالتالي أثرت على كل الأمور داخل أمريكا ومنها السياسية.
الأمر الثاني: هو التفاوت الكبير من حيث الثروة والمستوى الاقتصادي بين الولايات؛ خاصة الشمال والجنوب.
الأمر الثالث: هو طبيعة المبدأ الرأسمالي الذي يغذّي الفرقة، ويولّد الشحناء والبغضاء والتطاحن بين الناس حتى في البلد الواحد.
إن الصراع الحاصل اليوم داخل الوسط السياسي الأمريكي يرتبط مباشرة بطبيعة المبدأ الرأسمالي في التنافس، أو مظاهر التنافس من أجل المصالح والأموال والثروات؛ حتى وإن كان على كرسي الرئاسة.
وقد رأينا كيف وصل الأمر في الانتخابات السابقة على منصب الرئيس إلى حدّ الاقتتال، وتجاوز كل الخطوط الحمراء في النظم الديمقراطية التي يتغنّون بها. ثم تبع ذلك الاتهامات بالتزوير والتلفيق من أجل خدمة الحزب الواحد في هذه الانتخابات. ولكن هل انتهى الأمر بإعلان نتيجة الفوز للحزب الديمقراطي؟ الحقيقة أن الأمر لم ينته إلى ذلك، بل تابع الحزب الديمقراطي إلقاء كل ثقله السياسي من اتهامات وقدح وتلفيق وغير ذلك؛ من أجل إبعاد نتيجة الفوز للحزب الجمهوري في الانتخابات النصفية القادمة.
إن احتمال فشل الحزب الديمقراطي في الانتخابات النصفية القادمة ستعني الكثير الكثير لهذا الحزب، وستكون ضربة قاصمة لسياساته الداخلية والخارجية؛ خاصة موضوع التضخم والبطالة والحرب الأوكرانية، والعلاقات مع الصين. وستشكل نجاحاً كبيراً للحزب الجمهوري في عودته بقوة إلى أقوى المؤسسات الأمريكية بعد كرسي الرئاسة؛ لذلك يسعى الحزب الديمقراطي بكل قوة لإبعاد هذا النصر المتوقع، خاصة في ظل فشل وانتكاس سياسات بايدن في ملفات سياسية واقتصادية عدة، على رأسها الاقتصاد المنتكس كما أسلفنا.
إن موضوع ترامب في قضية تفتيش منزله، وإلصاق التهم له بسرقة الملفات، ليس الهدف منها في الحقيقة محاسبة شخص ترامب، وإنما تشويه صورة الحزب الجمهوري بشكل عام، وكذلك إثارة الخلافات بين كبار أعضاء الحزب؛ لإقصاء ترامب عن موضوع الترشيح، وبالتالي إثارة خلافات عميقة بين أعضاء الحزب. والهدف من كل ذلك: التأثير أولا على الانتخابات النصفية القادمة في الكونغرس، وثانيا: التأثير على وحدة القرار لدى الحزب الجمهوري؛ وبالتالي خلخلة قراراته. وإن موضوع إقصاء ترامب عن الترشح سيثير عاصفة قوية داخل صفوف المؤيدين له؛ خاصة إذا استجاب الحزب الجمهوري للأمر بسهولة!
ونصل إلى السؤال الثاني وهو: ماذا لو استطاع الحزب الديمقراطي محاكمة ترامب بتهمة إخفاء ملفات أو غير ذلك؛ مما يعتبر من أمور الخيانة الداخلية للشعب الأمريكي؟ الحقيقة إن هذا الأمر خطير ولا يبالي الحزب الديمقراطي بخطورته من أجل الكرسي. وخطورته تبرز في أنه إذا وقف الحزب الجمهوري واصطف خلف ترامب، وأصر على أن الأمر تلفيق، فهذا سيولد صراعاً محتدما بين الشعب الأمريكي كمؤيدين للحزبين؛ الجمهوري والديمقراطي، وربما قاد إلى أمور أخرى في موضوع الصراع الداخلي والفتن التي ترقد تحت الرماد.
إن الناظر لسياسات بايدن يرى أنها ضعيفة، ولا يستطيع أن يحقق نجاحات في الملفات الداخلية أو الخارجية. هذا عدا عن ضعف شخصه كرئيس وضعف جسمه. ولذلك يذهب الحزب إلى محاولات قطع الطريق على خصمه بأساليب هابطة، لا تتناسب إلا مع طبيعة المبدأ الرأسمالي المنحط. وإن الشهور القادمة لتنذر بأمور كثيرة على الأوساط السياسية الأمريكية، وربما ينعكس ذلك على الشعب الأمريكي بشكل عام؛ سواء داخل الولاية الواحدة، أو في الولايات المتفرقة والمتباعدة؛ خاصة المؤيدين لكلا الحزبين. وهذا الأمر يبرز أكثر إذا فاز الجمهوريون في الانتخابات النصفية للكونغرس. ولا يستبعد أن تجرّ هذه الأمور إلى تأزم الخلافات بين الحزبين، وانجرار الشعب الأمريكي خلفهما، وربما انجرار بعض الولايات أيضا تأييدا للجمهوريين أو الديمقراطيين.
إن هذا كله يقودنا إلى الحقيقة التي شهد بها رب العزة جل جلاله، وهي قوله تعالى: ﴿بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ﴾، وقوله: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾. والحقيقة الثانية: هي فساد هذه النظم والمبادئ في سياسة أمور البشر؛ لأنها مبنية على خدمة المصالح الشخصية أو الحزبية، ولا تبالي حتى لو قتلت الشعب وأثارت بينه الفتن. وإن النظام الصحيح الذي يليق بكرامة الإنسان، ويحقّق له العدل والاستقامة، هو الدين المتصل بخالق السماوات والأرض، وليس بمصالح آنية أو شخصية أو حزبية. وإنه لحري بأمة الإسلام أن تتمسك بدينها، وتسعى بكل قوة لتخليص نفسها أولا من هذا العفن الرأسمالي المتحكّم ببلادها، ثم تخليص هذه الشعوب التي تكتوي بنيرانه في كل شيء.
رأيك في الموضوع