"إن (إسرائيل) تعتبر أن اتفاقات أوسلو التي أبرمت عام 1993، والترتيبات التي تم التوصل إليها في كامب ديفيد وطابا العام 2000 لم تعد قائمة... لن نعود إلى هذه المواقع وأن الأضرار الحقيقية تحصل عندما تستحيل العودة إلى الوراء لكن الأمر ليس كذلك..."، كانت هذه الكلمات من رئيس وزراء كيان يهود أرئيل شارون عام 2002 كافية لتدرك السلطة الفلسطينية وقادتها حجم الخيانة التي ارتكبوها عندما وقعوا اتفاقية أوسلو وتنازلوا باسم الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني عن معظم الأرض المباركة لكيان يهود، ولكن وكما هو متوقع من منظمة أنشأها الغرب لتكون أداة بيده لتصفية القضية تمسكوا بخيانتهم وبنهجهم طمعاً في الدولة والسيادة التي وعدتهم بها أمريكا ضمن مشروع حل الدولتين.
وبعد تلك الكلمات بعقدين من الزمن وبعد ما يقارب ثلاثة عقود من توقيع اتفاقية أوسلو ما زالت السلطة تبحث عن ثمرة لخيانتها، فتتنقل بين العواصم والدول تبحث عن قيمة ومكانة سياسية لها ومنصة تتحدث من خلالها حتى كانت محطتها الأخيرة في القاهرة بعد أن قَدِم رئيس السلطة محمود عباس من برلين التي طالب فيها من المستشار الألماني أولاف شولتس الاعتراف بالدولة الفلسطينية ودعم حصولها على عضوية كاملة في الأمم المتحدة، ومن ثم كانت تلك الكلمة (المحرقة) التي قلبت ظهر المجن وتسببت له بإهانة كبرى تذبذباً من الحكومة الألمانية لكيان يهود الذي يبحث عن أي حرف أو كلمة ليربطها بمظلوميتهم المزعومة، فعاد عباس خائب الرجاء لينطلق بعدها بأيام إلى القاهرة ليجتمع مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ومع الأمين العام لجامعة الدول العربية ويعيد العبارات ذاتها عن مشروع الدولتين وضرورة إنقاذه ووقف الإجراءات التي تقوضه.
وفي مشهد مقابل كان كيان يهود على الأرض يسير وفق وصف شارون قبل عقدين "...لن نعود إلى هذه المواقع"، وكان يقصد حينها الحدود السياسية لما قبل عام 1967 وذلك للسماح بإقامة الدولة الفلسطينية عليها كما ينص مشروع الدولتين، فكانت مركباته العسكرية تصول وتجول في الضفة الغربية وكان جنوده يسفكون الدماء ويهدمون البيوت في جنين ونابلس في مشهد بات يتكرر يومياً - في مناطق السلطة - ليظهر بشكل جلي وواضح كيف ينظر كيان يهود إلى الضفة الغربية أمنياً وسياسياً وأنه يتعامل معها من منطلق استعماري توسعي، فهو وإن كبح جماحه في مصر وسوريا ولبنان من طرف الدول الكبرى ليبقى بحجمه ووظيفته وحتى لا يستعجل نهايته إلا أنه كان ولا زال يرى في الضفة امتداداً له وعمقاً لأمنه، فكان يعارض التنازل عن الضفة على مر العقود الماضية ولكنه وفي ظل الوضع الدولي الحالي والتطبيع بل الانبطاح المخزي الحاصل من الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين، وتعوده على التنازل ثم التنازل ثم التنازل من السلطة ومنظمة التحرير، بات يمارس سياسات مكثفة في الضفة تحاكي الضم وتتجاوز مشروع الدولتين وتجعل منه حطاماً لا يمكن جمع أجزائه، فيعلن عن المخطط تلو المخطط للتوسع الاستيطاني ومصادرة الأراضي ويفتح مطار رامون أمام أهل الضفة ويمنع دخول الأجانب إليها إلا بإذنه وقبل فترة محددة بـ45 يوماً، ويتواصل منسقه بشكل مباشر مع شبابها وينظم لهم العمل، ويعتقل جيشه ويصول ويجول في مناطق أ و ب وليس ج فقط ويسارع بشكل مخيف من سياسته التهويدية في القدس.
وبين المشهدين - مشهد الضفة ومشهد القاهرة - تكمن نكبة أهل فلسطين بوجود كيان يهود على الأرض المباركة وما يمارسه من ظلم وقهر وتهويد وتدنيس وسفك للدماء، ومصيبة أهل فلسطين بسلطة تحولت إلى جهاز أمني لخدمة كيان يهود وأداة سياسية ذليلة تتسول السيادة والدولة على أعتاب المجتمع الدولي ومؤسساته ومنها الأمم المتحدة التي تسعى لنيل عضوية كاملة فيها من خلال مجلس الأمن الذي يخضع للفيتو الغربي المساند لكيان يهود! وترفض التخلي عن طريقها التصفوي القائم على فصل القضية عن عمقها الإسلامي وجعلها قضية سلطة ومنظمة، وذلك رغم أنها أصبحت عاجزة عن القفز وتجاوز الحقيقة الواضحة وهي أن التنازل والخيانة لا يورث دولة ولا سيادة وإنما عمالة وخدمة للمحتل، فها هو ذلك الجزء الصغير من الأرض المباركة الذي تنازلت عن معظمها لأجله والذي من المفترض أنه مخصص لدولتها يتعرض لابتلاع وتهويد وتنكيل ولا تستطيع إيقافه فتحاول أن تواسي نفسها بالهروب إلى متنفسها المفضل وهو اللطميات على عتبات الأمم المتحدة والمجتمع الدولي والتمسح بالقانون الدولي والتنقل بين عواصم الدول، تتناول العشاء وتلتقط الصور وتبكي على أطلال مشروع الدولتين وتنحب أملاً منها في أن تساعدها تلك الدول على إيجاد حل للقضية ومخرج لهذا الوضع الذي تعيشه.
وفي الختام إن الوضع في فلسطين هو تهويد وابتلاع لما تبقى من الأرض وسفك للدماء وبطش بالناس وتهويد للقدس على يد كيان يهود مع عدم تفريطه بالسلطة وعدم الاستغناء عن تنسيقها الأمني ودورها في تحمل أعباء الناس وهو ما لخصته صحيفة هآرتس وأوردته صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 9/9/2022 "إن (إسرائيل) تريد أن تعمل السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية في خدمتها وحماية قواتها ومستوطنيها، في الوقت الذي تواصل فيه سياساتها بالسيطرة على أراضي الفلسطينيين وتوسيع الاستيطان، ورفض إجراء محادثات سياسية وترسيخ الحكم العسكري!!" ولا تأثير للقاءات السلطة ولطمياتها على تلك المخططات، والحل لوقف ذلك هو حل واضح ولا حل غيره؛ أن يتم عزل السلطة ومشاريعها عن القضية بفضحها وفضح تحركاتها وكذلك فضح خيانة كل الأنظمة في بلاد المسلمين والعمل السياسي على إسقاطها وتنصيب قيادة سياسية مخلصة وواعية تضع الخطة وتحرك الجيش وتنفذها فوراً لتحرير فلسطين كاملة غير منقوصة ذرة تراب منها كما حررها صلاح الدين سابقاً وأعطى الأمة نموذجاً في كيف أنها تستطيع استرجاع بلادها في ساعة من نهار إن هي أخلصت النية وعقدت العزم على ذلك.
بقلم: الدكتور إبراهيم التميمي
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع