في أعقاب الحراك الشعبي الذي انطلق في الجزائر يوم 22/02/2019م، وفي سياق إنشاء "جزائر جديدة" وفق رؤية المؤسسة الحاكمة في الجزائر، جاءت الضرورة الملحة لوضع دستور جديدٍ للبلاد عبر استفتاء شعبي تقرر يوم 01/11/2020م. وكان من أبرز مواده دَسترة الحراك، وهو ما يعني تبني وركوبَ الحراك الشعبي بغرض إخماده بخدعة اعتباره المنقذ للبلد من "العصابة" الفاسدة التي كانت تحكم! ويجري الآن إيهام الناس بعد استكمال بناء المؤسسات أن الجزائر الجديدة صارت واقعاً، وأن البلد على أبواب إقلاع اقتصادي جديد، الأمر الذي يثير الذهول والسخرية. بينما الحقيقة هي أن ركائزَ منظومةِ الحكم الفاسدة والمفلسة لم يتغير منها شيء، وأن الزمرة الفاسدةَ التابعة للأجنبي والتي كانت تحكم قبل مجيء تبون رئيساً للجزائر هي نفسها التي تحكم الآن ولكن بثوب جديد، رغم إبعاد مَن أُبعد وسجن مَن سجُن.
وها هي "مبادرة لم الشمل" التي أعلن عنها الرئيس تبون يوم 03/05/2022م والتي تتضمن جولات من الحوار مع من تختارهم السلطة من الأحزاب والشخصيات تنبئ عن مصالحة جديدة بين الزمر المتصارعة على النفوذ باتت بنظر صاحب القرار ضرورة لـ"تقوية الجبهة الداخلية"، سوف تمكن الجميع من اقتسام الثروة والريع من خلال الاستيراد باسم الاستثمار والمشاريع والصفقات، ولكن بالطرق الذكية والأساليب الخفية. علماً أن أهم وأبرز ما بات يؤرق النظام الجزائري (التابع لأوروبا) في هذه الآونة ليس هو الوضع الداخلي بقدر ما هو الصراع الدولي على المنطقة، والأوضاع السياسية في الجوار شرقاً وغرباً وموقف أمريكا من الأحداث التي تجري في المحيط الإقليمي للجزائر، أو بالأحرى التحركات العسكرية الأمريكية عبر وكلائها في ليبيا ومنطقة الساحل الأفريقي وفي شرق القارة وغربها، وما بات مطلوباً من الجيش الجزائري إزاء المستجدات على الساحة الإقليمية جنوباً. علماً أن البلد يشهد في هذه الآونة تردياً اقتصادياً كبيراً وتضخماً وصل إلى مستويات غير مسبوقة.
فحُق لنا الآن بعد اكتمال الدورة، أي بعدما تمكن العملاء من إخماد أو احتواء احتجاجات الجزائر وأغلب الانتفاضات الشعبية الأخيرة في بلاد المسلمين عامةً، أن نتحدث عن المحصلة النهائية لما سمي الثورات العربية، وإحصاء - بصدق - أبرز وأهم الدروس المستخلصة منها، وبالأخص تلك التي أقصي منها الإسلام وأبرز فيها مطلب الحرية والديمقراطية ورُفع فيها شعار الدولة المدنية وتشبثت بفكرة إنهاء حكم العسكر، كحراك الجزائر شباط/فبراير 2019م، والثورة الأخيرة في السودان على سبيل المثال لا الحصر، وكذا الثورة التونسية بوصفها تجربة رائدة وناجحة بحسب الكثير. فقد تبين أن:
1- التحول الديمقراطي في بلاد المسلمين هو وهم، والسبب بسيط، وهو أن الديمقراطية تتناقض في الأساس مع هوية الشعوب في هذه البلدان المذكورة وفي غيرها، فضلاً عن أنها هراء وخدعة لا تؤتي قذارتَها إلا إذا تخلى أهل البلاد عن هويتهم، وهيهات!
2- الديمقراطية تحت سقف الدولة الوطنية سراب يجري وراءه المولعون بحضارة الغرب من النخب العلمانية بشقيها سواء المعادية لهوية الأمة أو الملتحية المتاجرة بالثوابت، حتى إذا وصلوا إلى خط النهاية - بعد عقد أو عقدين أو ربما ثلاثة من عمر الشعوب المقهورة - تبين لهم أن المتحكمين في اللعبة، أذناب المستعمر الغربي، تحايلوا ولم يُنصفوهم! ثم قرروا بعد ذلك إعادة المحاولة، دائماً تحت سقف الدولة الوطنية الوضيعة.
3- هؤلاء المضبوعون من أبناء الأمة بمفاهيم الغرب عن الحياة فضلاً عن المأجورين، لن ييأسوا أبداً مهما تكرر الفشل من إعادة المحاولة.. فلعلها تنجح في الكرّة الألف أو الألفين! ومَن يدري؟!
4- التنكر لهوية الأمة ثمنه باهظ! أقله الذلة والهوان في الدنيا! إذ الدخول في لعبة الخصم بقوانينها وقواعدها خيانة تُفضي حتماً إلى اليأس والهزيمة والصغار.
نؤكد من هذا المنبر على أن البديل الوحيد المفضي إلى رضوان الله والمحقق للعزة والرفعة والانتصار إنما هو عودة الخلافة على منهاج النبوة إلى ديار المسلمين من جديد، بوصفها مطلباً شرعياً، علماً أن ما سوف يتحقق على أرض الواقع بقيامها هو من أوجب الواجبات، والذي ليس أقله توحيد الأمة وقهر الأعداء واسترجاع الثروات وإظهار دين الحق على الدين كله. فالخلافة مسألة شرعية بالأساس.
أما من ناحية الواقع ومجريات الأحداث و"إنجازات الدولة الوطنية" التي نشأت على أنقاض حكم الإسلام، في الجزائر وفي غيرها، فقد:
1- أصبح لا يخفى على أحد أن ما تعيشه الأمة الإسلامية اليومَ من ضعفٍ وتشرذمٍ على أساس الفكرة الوطنية الدخيلة المفروضةِ عليها من الغرب، إنما هو حالة شاذة طارئة لن تدوم، نشأت جراء إقدام الكافر المستعمِر الغربي على نشر سموم ثقافته ونظرته للحياة وإثارة النعرات من كل صنف في بلاد المسلمين، ثم هدمِ أركان الكيان الجامع للمسلمين وتنفيذ أجندته بتمزيقه إلى أقطار عديدة وكيانات هزيلة لا تقدر على شيء، يحكمها نواطير مجرمون متمرسون على خدمة الأجنبي عبر تضليل الناس وخداعِ الشعوب، مهمتهم الأساسية هي طمس هوية الأمة وفق إرادة المستعمر، ومنع شعوبها من الرقي والتحرر والعودةِ إلى الوحدة والقوة في ظل الإسلام.
2- تبين أن التغيير في بلاد المسلمين بات ملحاً بالنظر إلى إخفاق كل الدول الوطنية الحالية في إحداث أي نهوض أو تنمية أو تقدم يذكر، علاوة على أن هذه الكيانات المنتهية الصلاحية هي التي أوصلت الشعوب الإسلاميةَ كما هو مشاهَد في كل قطر إلى هذه الحالة التعيسة من الفوضى والانسداد، بعد أن أفسدت أحوال الناس على كافة الأصعدة على مدى عقود، وكرست كل أصناف الرداءة والتبعية. وهي الآن حريصة على استمرار حالة التقهقر والانحدار.
3- بات معلوماً أن الدولة الوطنية الضيقة (أو القومية) التي تُقصي الإسلام عن الحكم إنما هي امتداد لحكم المستعمِر في ثوب جديد، وهي بالرغم من كل التضحيات والمآسي إبان الثورات المسلحة وغيرها على المستعمر خلال العقود الماضية لعبة استعمارية جديدة من هذا الطرف أو ذاك بأساليب ووسائل مستحدثة غاية في الخبث والمكر، تجري بواسطتها عرقلة النمو وتكبيل المسلمين في بلادهم وتسويق حضارة الغرب وتثبيت طراز عيشه ونظرتِه للحياة، وضرب هوية الأمة على جميع المستويات. فهي بالمجمل أداة لتكريس التبعية والهيمنة الرأسمالية الاستعمارية المقيتة على هذه البلدان المكلومة سياسياً واقتصادياً وثقافياً وإطالة عمر سيطرة الغرب على الشعوب الإسلامية.
4- تبين أن الدولة الوطنية هي في حقيقة الأمر أداة مهمة وفعالة بيد المستعمِر من بين أدوات وأساليب أخرى لامتصاص ثروات الأمة ونهب خيرات الشعوب وإفشال أو احتواء ثوراتها المستقبلية كلما ثارت أو انتفضت.
فهل يصح بعد هذه الحقائق وكل تلك المآسي أن نطالب من جديد بدولة مدنية تحت سقف الوطنية؟! ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾.
رأيك في الموضوع