إن حقيقة الأزمة المشتعلة في أوكرانيا هي أن أمريكا تريد التأثير على العلاقة والشراكة، والتعاون السياسي بين الصين وروسيا، وليس هذا العمل هو الأول تجاه الصين وروسيا؛ فقد قامت من قبل بأعمال كثيرة لإبقاء هذه الدول ضمن دائرة النظرة الإقليمية، وحتى تنشغل بنفسها وبمشاكلها الإقليمية عن منافسة أمريكا، أو التفكير بالتفلت من هيمنتها منها: فرض عقوبات اقتصادية سابقة على الدولتين؛ كما حصل بعد ضم روسيا للقرم عام 2014، وكذلك فرض عقوبات على الصين سنة 2018 عندما اشترت أسلحة متطورة من روسيا، وبإقامة أحلاف عسكرية حول الصين؛ كما فعلت عندما أسست حلف اكواد في منطقة المحيط الهادي والهندي سنة 2007 ويضم كلا من (أمريكا والهند وأستراليا واليابان)، وحلف أوكوس في منطقة المحيط الهندي سنة 2021 ويضم أمريكا وبريطانيا وأستراليا. وهذه الأحلاف الهدف منها محاصرة الصين عسكريا في محيطها، بالإضافة إلى أهداف اقتصادية أخرى.
إن ما قامت به أمريكا من إشعال للحرب في أوكرانيا، وما ترتب على ذلك من عقوبات، أو أمور أخرى؛ ربما تتدحرج وتتطور إلى أبعد من ذلك، هذه الأمور تؤثر تأثيراً مباشراً على الأزمة الاقتصادية العالمية، وتزيد رقعة اتساعها، وتخلق أموراً جديدة تضاف إلى دائرتها، تماما كما حصل أثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية؛ حيث حدثت انتكاسات اقتصادية خطيرة في العالم، تسببت بأزمة مالية سنة 1929، وانهيار الأسواق المالية، وتسببت بانكماش اقتصادي عالمي كبير، ودخول أوروبا بأكملها في موت سريري اقتصادي، كاد أن ينهي دولها نهائيا عن الخارطة السياسية. وهناك أمور في الأزمة الأوكرانية، لها تأثير على الاقتصاد العالمي، وتزيد في عمق واتساع الأزمة الاقتصادية العالمية؛ ومن هذه الأمور:
1- العقوبات المالية والتجارية على المؤسسات، وعقوبات الموارد الاستراتيجية؛ مثل البترول والغاز. فالعقوبات التي فرضها الغرب على روسيا كثيرة ومتعددة، وتطال حتى أشخاصاً عاديين في روسيا، من التجار ورجال الأعمال والرياضيين وغيرهم. من هذه العقوبات: حظر شراء الغاز والنفط من قبل أمريكا وبريطانيا. تجميد أصول البنك المركزي الروسي، ما حدّ من قدرته على الوصول إلى 630 مليار دولار من احتياطاته. إبعاد بعض البنوك الروسية عن نظام سويفت؛ الذي يسمح بتحويل الأموال بشكل سهل بين الدول المختلفة، وهو الأمر الذي سيعيق قدرة روسيا على الحصول على عائدات بيع نفطها وغازها. وقامت بريطانيا بتجميد أصول كافة البنوك الروسية. وأعلن الاتحاد الأوروبي عن فرض عقوبات تستهدف 70% من السوق المصرفية الروسية، وكبريات الشركات المملوكة للدولة الروسية. إعلان بريطانيا والاتحاد الأوروبي، وأمريكا وغيرها عن فرض قيود على المنتجات التي يمكن إرسالها إلى روسيا، ويشمل هذا السلع ذات الاستخدام المزدوج (المدني والعسكري). وما زالت أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي، وأحلافهم تضيف في كل يوم قائمة جديدة من العقوبات؛ على الأموال والبنوك والتجارة في الاستيراد والتصدير، وعلى السلع الحيوية كالبترول والغاز.
2- محاولات روسيا إجراء المعاملات والعقود بالروبل الروسي. ففي 23/3/2022 قررت روسيا على لسان رئيسها بوتين إجراء عقود الغاز بالروبل للدول غير الصديقة، بدل العملات الأخرى، وجاءت هذه الخطوة كردة فعل من روسيا تجاه العقوبات وتجميد الأموال.
3- ما تقوم به أمريكا من ضغوطات لإجبار الاتحاد الأوروبي على مقاطعة مصادر الطاقة الروسية؛ مثل الغاز والنفط، والعمل على إيجاد البدائل لذلك، وما يترتب على ذلك من خسائر كبيرة للاتحاد الأوروبي وغيره. تقول أنجيلا ستينت المسؤولة السابقة بإدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، وخبيرة شؤون الطاقة بمعهد بروكينغز: "سيتعين على الأوروبيين البدء في التخطيط لمستقبل لا يمكنهم فيه الاعتماد على إمدادات الغاز المعرضة للمخاطر". وفي القمة الطارئة لحلف الأطلسي في بروكسل 28/3/2022 قال بايدن في مؤتمر مشترك مع رئيسة المفوضية الأوروبية أور سولا فون: "إننا ملتزمون بالعمل معاً بشكل وثيق؛ للتغلب على تحديات اليوم المتعلقة بأمن الإمدادات، وارتفاع الأسعار في أسواق الطاقة"، وتابع: "نلتزم بتكثيف تعاوننا الاستراتيجي في مجال الطاقة؛ من أجل تأمين الإمدادات، وسنعمل معاً لتوفير إمدادات طاقة موثوقة ومعقولة التكلفة؛ للمواطنين والشركات في الاتحاد الأوروبي وجواره".
4- ما تتحمله بعض الدول من نفقات طائلة للحرب؛ مثل أوكرانيا ودول الاتحاد الأوروبي. فنفقات الحرب الأوكرانية كثيرة ومتعددة، وخاصة نفقات اللاجئين، وتعويضات الشركات والعمال والموظفين. وكذلك نفقات توريد الأسلحة، وغير ذلك من نفقات تتطور وتتدحرج في كل يوم. ففي تقرير نشرته مجلة لوبس الفرنسية قبل أيام، يقول الخبير الاقتصادي والباحث في مركز بروغل جان بيساني: "يبدو أن الاقتصادات الأوروبية لن تستطيع مجابهة تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية، فيما يتوقع أن تتجاوز تكلفة معالجتها حجم الناتج المحلي الإجمالي بالاتحاد الأوروبي في عام 2022 المقدر بنحو 175 مليار يورو"!
5- ما تسببه الحرب بين أوكرانيا وروسيا من تأثير كبير على مصادر الغذاء الرئيسة؛ مثل القمح والزيت؛ وخاصة أن أوكرانيا وروسيا هما المصدران الرئيسيان لهذه المنتجات الضرورية. حيث تشير الأرقام إلى أن الدول العربية بشكل عام، تحصل على ما نسبته 25% من صادرات القمح العالمية، فيما تستورد مجتمعة 60% من احتياجاتها للحبوب من روسيا وأوكرانيا؛ نظرا لسعرها المنخفض في البلدين. وقد وقع الرئيس الروسي في 14/3/2022، قرارا يمنع بموجبه تصدير القمح والميسلين والجاودار والشعير والذرة إلى بعض البلدان، منها الاتحاد الاقتصادي الأوراسي باستثناء بيلاروسيا. ويبقى الحظر ساري المفعول حتى نهاية العام التسويقي في 30 حزيران/يونيو 2022.
6- إغلاق الأسواق العالمية أمام الاستيراد والتصدير لسلع كثيرة من روسيا. فقد جاء في خطاب بايدن 26/3/2022 من البيت الأبيض: "نحن نحظر جميع واردات روسيا من النفط والغاز والطاقة. وهذا يعني أن النفط الروسي لن يكون مقبولاً بعد الآن في الموانئ الأمريكية، وسيوجه الشعب الأمريكي ضربة قوية أخرى لآلة بوتين الحربية". وفي المقابل وقع بوتين مرسوما يحظر بموجبه استيراد وتصدير المنتجات والمواد الخام من وإلى روسيا في عام 2022 وفقا للقوائم التي يحددها مجلس الوزراء.
7- محاولات الزج بالصين في هذه الأزمة لتوسيع دائرة العقوبات. وموضوع محاولات الغرب (أمريكا وبعض دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا) ضم الصين في موضوع الأزمة الحالية ظاهر وواضح؛ لأن هذا هدف عند أمريكا على وجه الخصوص. فقد صرح وزير خارجية أمريكا أنتوني بلينكن في 18/3/2022 بالقول: "إن إدارة بايدن تشعر بالقلق من أن بكين تدرس مساعدة روسيا بشكل مباشر بعتاد عسكري في أوكرانيا، وتشعر واشنطن أيضا بالقلق من احتمال مساعدة الصين لروسيا في الالتفاف على العقوبات الاقتصادية الغربية".
يتبع...
رأيك في الموضوع