ليس الجديد من أمر أمريكا الاستعمارية هو همجيتها ووحشيتها وعزمها على القتل والإجرام في بلاد المسلمين، فقد كانت دوماً وما زالت جاهزة لاستخدام كل أنواع الأسلحة الفتاكة كالقنابل الحارقة والبراميل المتفجرة وحتى السلاح الكيميائي مثلما فعلت عبر عميلها في سوريـا ضد أهل دوما في الغوطـة الشرقية مع بدايـة شهر نيسان/أبريل 2018م. ما يعني أن أمريكا قد تختار في أية لحظة الولوغ مجدداً في دماء المسلمين لإخضاعهم، مباشرةً أو بواسطة الوكلاء؛ إنما الجديد هو عدم استطاعتها الآن خوض المعارك العسكرية بنفسها! وقد بدا ذلك جلياً سواء حين استدعت أمريكا روسيا في ليبيا من أجل القيام بالمهمة بغرض التمكين لأتباعها هناك بدعمٍ من السيسي وقوات مرتزقة الروس الداعمة لحفتر وأزلامه ومليشيات الجنجويد الذين استقدمتهم من السودان، أو عندما هربت من مواجهة طالبان في أفغانستان، أو كما تفعل الآن في اليمن سواء عبر جماعة الحوثي بدعم من إيران أو عبر عملائها حكام آل سعود. وقد فعلت ذلك أيضاً في سوريا حينما استدعت إيرانَ وأشياعَها وبالأخص ذراعَها في لبنان ومرتزقةً ومليشياتٍ مواليةً لها من العراق وأفغانستان بغرض سحق الثورة والثوار وكسر إرادة أهل الشام، وإبعاد شبح تغيير النظام، خوفاً من عودة الخلافة إلى ديار الإسلام.
إلا أن مما ينبغي أن يدركه المسلمون قبل غيرهم هو أن استخدام أمريكا لروسيا عسكرياً أو سياسياً كغطاء في تحقيق مآربهم في البلاد الإسلامية ليس أمراً جديداً، والأمثلة كثيرة. فقد أوحت أمريكا لعميلها عبد الناصر بعد نجاح ثورة يوليو 1952م في مصر وعقب الإطاحة بالملك فاروق عميل الإنجليز بأن يولي وجهَه شطر المعسكر الاشتراكي في التمويه بالأيديولوجيا الوهمية المتمثلة في الاشتراكية الممزوجة بالقومية العربية (!!) التي تغنى بها عبد الناصر طوال نحو عقدين لخداع الجماهير في مصر وفي البلاد العربية، كما أوحت إليه لتثبيت حكمه بإبرام صفقات التسلح مع الاتحاد السوفيتي، وذلك لإبعاد شبهة ارتباطه بأمريكا ارتباط عمالة وتبعية حتى النخاع. كذلك كان الأمر فيما قام به بومدين في الجزائر بتبنِّيـه النهج الاشتراكي المخفق وفكرة عدم الانحياز، وبتسليح الجيش الجزائري الناشئ بالسلاح الروسي (المتهرئ) عبر صفقات باهظة الثمن منذ استيلائه على السلطة سنة 1965م، ولكن بومدين فعل ذلك للتغطية على ارتباطه وزمرته الوثيق بالإنجليز. ولما تمكن عميل أمريكا حافظ الأسد من الوصول إلى السلطة في سوريا سنة 1970م، يَمَّم هو أيضاً صوب الاتحاد السوفيتي بتدبير أمريكي لتسليح الجيش العربي السوري باقتناء المعدات القتالية من السوفيت، موهماً الجماهير العربية بأن الجمهورية العربية السورية صارت تمثل جبهةَ الصمودِ والتصدي وقلعةَ المقاومة في وجه كيان يهود والإمبريالية الغربية والصهيونية العالمية المتحالفة مع الرأسمالية الاستعمارية، ولم يكن ذلك إلا دعايةً فارغةً وهراءً، والملاحظ في كل ذلك أن الروس المتغولين الآن على المسلمين في بلاد الشام بالقتل المنهجي والقصف الهمجي، ليس لهم في الحقيقة دور في البلاد التي تقع في نطاق نفوذ الغرب - أوروبا أو أمريكا - سوى توفير السلاح بمختلف أشكاله، والقتل والتدمير بالقصف وغيره وفق ما يقرره عند الحاجة المستعمر الأمريكي بحسب الحالة والطلب.
إلا أن الأمر في سوريا مختلف بعض الشيء نظراً لأهمية موقعها الجغرافي والسياسي، فقد أُسند فيها للدب الروسي المجرم دور احترازي متقدم منذ سبعينات القرن الماضي - بتخطيط أمريكي أيضاً - تمثل في التحالف عسكرياً مع النظام البعثي الحاقد في دمشق منذ أيام الأسد المقبور، وذلك للتعمية على التبعية وتحسباً لانتفاضة أهل الشام المسلمين على نظامه الطائفي البعثي القمعي الشديد العداء للإسلام، والمدعوم من كيان يهود أيضاً، إذ إن أمريكا كانت دوماً تخفي عمالة أسد وزمرته وأجهزته لها، كما تخفي وجهها الاستعماري الخبيث عن أهل المنطقة. فقد كان إقحام روسيا وتوظيفها هناك ذا طابع عسكري إجرامي. وبما أن أمريكا تخفي عداءها الشديد لأهل البلاد المسلمين، فإنه لا يتأتى لها القيام بدور المواجهة بنفسها لسحق المنتفضين على نظام الأسد، خصوصاً وأنها تتغنى دوماً كذباً وخداعاً بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان! وإذ هي حريصة أيضاً على عدم السماح بأي دور لأوروبا في سوريا، فإنها من خلال إقحام روسيا في الصراع تضمن أيضاً إبعاد المستعمر القديم عن التدخل في سوريا، وهذا هو ما يفسر لعبةَ أمريكا المزدوجة: دعمها الحقيقي الخفي للنظام السوري عن طريق روسيا الحاقدة وإيران وأتباعها بالرجال من المليشيات الطائفية والمرتزقة وبمختلف أنواع السلاح الفتاك، وكذلك احتواؤها للمعارضة في الخارج عن طريق أردوغان من خلال توفير المال والملاذ الآمن والمنابر السياسية والإعلامية والفنادق، لتختار منهم عملاء المستقبل، أي بعد التسوية السياسية إن هي نجحت في إخماد الثورة السورية! كما تمنع في المقابل تحت شتى الذرائع والحجج الواهية وصول أي سلاح نوعي للثوار قد يشكل خطراً على نظام دمشق، وهو ما يضمن بحسب مخططها لسوريا غلق أبواب الانعتاق في وجه كل من يريد إخراج سوريا من دائرة النفوذ الأمريكي.
والحقيقة هي أن أمريكا كانت قد استدعت روسيا عسكرياً في سوريا لإخماد الثورة مضطرةً، وذلك حين أحدق الخطر بعميلها في دمشق وأوشك نظامه وأجهزتُه على الانهيار بعد أن عجزت كل القوى الأخرى المتدخلة عن حسم الموقف لصالحه، ضامنة أن لا يكون لروسيا أي دور في مستقبل سوريا الجديدة بعد الثورة، كون رصيدها في الوسط السياسي السوري معدوماً. وإذ هم - أي عصابة مجرمي الروس في الكرملين - لا يبالون بالإهانة كونهم مجرمين قتلة وسفلة لا يتقنون سوى القتل والقصف والهدم، فبمجرد المرور لتسوية سياسيةٍ وفق ما تخططه أمريكا لبلاد الشام، سيكون الروس في حكم المنسحِب (ولو إلى بعض القواعد)، في انتظار أدوار همجية قادمة من القتل والتنكيل والتشريد والتهجير قد يجري استدعاؤهم للقيام بها في بلاد المسلمين أو أماكن أخرى مستقبلاً حسب الحاجة ووفق الطلب الأمريكي، أو في انتظار قيام دولةٍ حقيقية للمسلمين في المنطقة سوف تطردهم جميعاً من البلاد شر طردة وتسحقهم سحقاً! وهذا هو ما يخشى الروس حدوثَه في بلاد الشام أو في غيرها من بلاد المسلمين أكثر من غيرهم! علماً أن أمريكا الموجودة الآن في المناطق المهمة والحساسة من سوريـا بقواتـها العسكرية لا يوجد على الأرض مَن يُلزمها على سحب قواتها في المدى المنظور، فهي باقية في سوريا كما هي في العراق إلى حين استكمال مشروعها للمنطقة إن استطاعت، ومن ذلك تثبيتُ نظامٍ يخدمها في دمشق ودفعُ الأنظمة العربية الخانعة للتطبيع معه كما هو جارٍ الآن، كأن شيئاً لم يحدث في سوريا. فقد جاء على لسان المندوبة الأمريكية في الأمم المتحدة يوم 16/04/2018م: "لن نسحب قواتنا من سوريا حتى تُـحققَ أهدافـَها" (رويترز).
يستفاد من كل ما سبق أن أمريكا في تراجع مستمر على جميع الصعد بالرغم من سعيها الدؤوب للخروج من المأزق، وللظهور بغير ذلك المظهر على الساحة الدولية! إذ لم تعد قادرةً على المواجهات العسكرية على الأرض خاصةً في بلاد المسلمين بسبب عدم القدرة على تحمل الخسائر المادية والبشرية، ونظراً لكلفة وتداعيات المواجهة على اقتصادها المتداعي أصلاً، خاصةً في ظل المنافسة العالمية الشديدة والحادة خصوصاً مع الصين.
رأيك في الموضوع