تحت وطأة الأزمات الخانقة التي عصفت بلبنان والتي كانت تتفاقم بوتيرة يومية حتى ضاقت الأرض بما رحبت على الناس الذين يعانون أشد المعاناة للحصول على لقمة العيش ولو في الحد الأدنى وتأمين الحاجيات الأساسية من كهرباء وماء ودواء ووقود، وبعد أن تواصل الشلل الحكومي لحكومة تصريف الأعمال المستقيلة برئاسة حسان دياب، إثر انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020 والذي حاكى تفجيراً نووياً مصغراً، وبعد ضغوطات متواصلة من (المجتمع الدولي) ممثلا بفرنسا تحت عنوان المبادرة الفرنسية لإنقاذ لبنان، وبتفويض من أمريكا لفرنسا، ولو ظاهراً، تم تشكيل الحكومة الحالية برئاسة محمد نجيب ميقاتي. ضمّنت الحكومة في بيانها الوزاري برنامج عملها وأهم ما جاء فيه: إجراء الانتخابات النيابية في موعدها، استئناف التفاوض الفوري مع صندوق النقد الدولي، الالتزام بالمبادرة الفرنسية، استئناف المفاوضات لترسيم الحدود البحرية مع كيان يهود، استكمال مشروع استقدام الغاز الطبيعي لتوليد الكهرباء، والحرص على استكمال التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت.
كان واضحا أن بنود البيان الوزاري جاءت استجابة لضغوط واشنطن وباريس، واضطر حزب إيران في لبنان تجرع سم الخضوع للضغوط الدولية ليخفف من تبعات تحميله مسؤولية انفجار مرفأ بيروت من جهة، والتسبب، من جهة أخرى، بوضع لبنان تحت وطاة الأزمة المالية الخانقة نتيجة هيمنة حزب إيران (واستطراداً إيران) على مفاصل القرار في البلاد، ما وضع لبنان في موضع مقاطعة دولية غربية من جهة وعربية بقيادة السعودية من جهة أخرى بتصنيف الحكومة اللبنانية بالتبعية لمحور إيران. ومع أن التحقيقات التي يقودها القاضي طارق البيطار لم تطل حزب إيران اللبناني مباشرة، إلا أن الحزب وجد فيها ذريعة لتفجير أزمة حكومية تمكّنه من تعطيل سير الحكومة في تنفيذ البيان الوزاري لما يعتبره تنفيذاً للأجندة الأمريكية الهادفة لفرض سيطرة صندوق النقد والبنك الدوليين على مرتكزات الاقتصاد اللبناني وربطه بعجلة خطة التعافي الاقتصادية والمالية.
فحزب إيران هذا دأب على المطالبة بالتوجه شرقا، أي الاستعانة بإيران والصين، والابتعاد عن المحور الغربي بقيادة أمريكا التي تصر على فرض شروطها لجهة ترسيم الحدود البحرية مع كيان يهود، كما باركت استقدام الغاز الطبيعي من مصر، كما يُنشر، مع أن الحقيقة أن مصر تستقدم الغاز من عند يهود. كما نقلت رويترز، في 9 تشرين الأول، عن القناة 12 بأن "غاز توليد الطاقة الذي سينقل من مصر إلى لبنان بالأنابيب عبر الأردن وسوريا هو غاز (إسرائيلي)" وأن واشنطن ستعفي هذه الخطة من عقوبات قانون قيصر. وتابعت "أن حزب الله سيغض النظر عما يجري ما دام أن الكهرباء ستنير لبنان" وهذا ما أكدته مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون السياسية السفيرة فيكتوريا نولاند كما نقل موقع أساس "باتت مسألة الاستثناءات من قانون قيصر محسومةً، والولايات المتحدة الأمريكية مستعدّة، ولو أنّها لن تعلن ذلك رسمياًّ، أن تغضّ الطرف عن أيّ تعاون بين لبنان وسوريا في موضوع توفير الطاقة للبنان عبر الأراضي السورية، وأن تسهِّل آليّات الدفع للدولتين المصرية والأردنية، خصوصا أنّ موضوع التعاون اللبناني الأردني المصري عبر سوريا هو اقتراح أمريكي قدّمته أوّلاً السفيرة دوروثي شيا، وهو يتوافق مع الرغبة الأمريكية بعدم رؤية لبنان ينهار". فأمريكا لا تريد للبنان أن ينهار، وهي مستعدة لحل أزمة الكهرباء المستعصية فيه باستقدام الغاز من كيان يهود، وتعطيل عقوبات قيصر، أي السير في تطبيع العلاقة مع نظام دمشق، و"على عينك يا تاجر"، ودعت نولاند المسؤولين اللبنانيين الذين التقتهم، إلى "ضرورة التعاون مع الوسيط الأمريكي آموس هوكشتاين المنسّق الجديد لشؤون الطاقة في وزارة الخارجية الأمريكية الذي يقوم بزيارته الأولى إلى لبنان الأسبوع المقبل، والذي سيكون الوسيط الأمريكي في ملفّ ترسيم الحدود البحرية الجنوبية والمباحثات غير المباشرة بين لبنان و(إسرائيل) وعدم عرقلة مهمّته".
ويفترض بالمدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي، والممثل لمجموعة الدول العربية، بما فيها لبنان لدى المجلس التنفيذي للصندوق الدكتور محمود محيي الدين أن يبدأ الأسبوع المقبل زيارة للبنان ضمن جهود التعاون بين لبنان والصندوق بشأن خطة الدولة للتعافي الاقتصادي. وكان محيي الدين أكد في حوار لوكالة أنباء الشرق الأوسط، أن "وجود حكومة كاملة الصلاحيات هو شرط أساسي لبدء المفاوضات بين لبنان وصندوق النقد"، مؤكداً أن "التوصل لاتفاق بين الدولة اللبنانية والصندوق يعني حصول لبنان على تمويل، كما يفتح أمامها الباب للحصول على تمويل آخر من جهات ومؤسسات دولية، ويعيد الثقة في الاقتصاد اللبناني وقدرته على التحرك، ويفتح المجال للاستثمار والتجارة بشكل منتظم والتشغيل للمتعثرين".
فالمفتاح لترياق الحل الدولي يكمن في الخضوع لما تُمليه أمريكا من شروط تحت عنوان "خطة التعافي" وفتح الباب أمام التمويل الخارجي، وهذا كله يقتضي وجود "حكومة كاملة الصلاحيات".
وهذا يفسر إصرار حزب إيران على تصعيد لهجة الخطاب بذريعة تنحية قاضي التحقيق البيطار، واتهامه بأنه ينفذ أجندة خارجية. وبدأ التصعيد في الاجتماع الأخير للحكومة يوم الثلاثاء الماضي 12 تشرين الأول حين قام وزير الثقافة محمد مرتضى بفرض بند من خارج الجدول لبحث تنحية القاضي بيطار عن التحقيق، مطالباً وزير الداخلية بسام مولوي بنبرة آمرة بذلك. وبحسب ما نشر فقد كان ممكنا التوصل إلى صيغة توافقية تشكل مخرجا ولكن إصرار الثنائي الشيعي وردّة فعل رئيس الجمهورية ميشال عون عطّلتا الوصول إلى حلّ جذريّ رحّل التفاهم إلى جلسة أخرى، فتعطّلت الحكومة وعُلِّق عملها. وصار عنوان الأزمة الحكومية: إما عزل البيطار أو تشل الحكومة. وهذه مجرد حجة أراد حزب إيران منها فرض الشلل الحكومي لتعطيل السير فيما تريد واشنطن فرضه من إملاءات إن كان لجهة ترسيم الحدود البحرية، أو التوصل إلى خطة تعافي مع صندوق النقد الدولي، والمتضمنة تمويل البنك الدولي للغاز المستقدم من كيان يهود.
في هذا السياق لم يكن من المستغرب انفجار أحداث مظاهرة الخميس في خط التماس بين الشياح وعين الرمانة، التي شهدت انطلاقة الحرب اللبنانية في 1975 بكل ما تحمله ظلالها من تذكير كارثي لم تنسه ذاكرة اللبنانيين. فالمسألة لا تنحصر في تفاصيل حادثة عين الرمانة بحد ذاتها بقدر ما تكمن في أزمة الحكم الأساسية والواقع في انقسام عامودي حاد، ليس جديدا في الكيان الهش للبنان المحكوم دوما بسقف التدخلات الخارجية من أحداث فتنة الجبل الشهيرة عام 1860 إلى حرب 1958 إلى حرب 1975، وما بينها من كون الحاكم بأمره إما السفير المصري زمن جمال عبد الناصر أو قائد المخابرات السورية في حقبة 1975-2005 أو الهيمنة الايرانية بعد الانسحاب السوري. فالكيان اللبناني الهش لم يمتلك يوما مقومات الدولة المستقلة ولذا بقي كالريشة في مهب ريح السياسة الخارجية، تتنازعه الأطراف المتصارعة، ينطبق عليه اليوم ما كتبه مطران إهدن في شمال لبنان، إلى البطرك في جونية عام 1857: "صرنا في وضع إذا اختلف جار مع جاره ينتهي الأمر بظهور الأسطول البريطاني والأسطول الفرنسي في البحر".
رأيك في الموضوع