ها هو الكاتب الأمريكي توماس فريدمان يطلق من جديد جرس إنذارٍ للطوارئ، لكن هذه المرّة كان موجّهاً لأوروبا الرأسمالية وشعوبها، لتنبئهم بالموت من البرد هذا الشتاء إذا لم يتداركوا الأمر. وينبّه الأطراف الأخرى الممسكة وسائل التدفئة لشعوب أوروبا، مكامن القوة في استغلال هذا الظرف المستجد في تقلّبات الأسواق العالمية المرتبطة بالطاقة، وعلى رأسها الغاز الطبيعي المستورد من روسيا وقطر.
ففي مقال له بصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية بعنوان: (A Scary Energy Winter Is Coming. Don’t Blame the Greens)، أظهر فريدمان إعجابه بالرسالة الإخبارية المالية Blain’s Morning Porridge، التي كتبها الاستراتيجي في الأسواق المالية بيل بلين عن وضع الطاقة في المملكة المتحدة وأوروبا. حيث أشار فيها أنّ الناس الفقراء سيكونون أمام خيارين اثنين: إمّا أنْ يأكلوا أو يموتون من البرد، مع ارتفاع أسعار الطاقة. وأشار الكاتب لمسألة ربط هذا المصير للناس بسياسات الحكومات الغربية التي ألزمت نفسها بالتحوّل للطاقة النظيفة قبل تأمين البديل لهم، حيث شكّل نتيجة تدافع تلك الحكومات على البديل المثالي المتوفّر "الغاز الطبيعي"، زيادة طبيعية في سعره حول العالم. علماً أن الكاتب أشار إلى دور إيران في استغلال هذا الظرف في "صراعها مع أمريكا" من خلال عرقلة تصدير الغاز القَطَري.
إنّ الوقوف على ما قدّمه فريدمان من ملاحظات في الواقع الجيو-سياسي وصراع الأطراف الدولية في تأمين مصالحها القومية، يسترعي منّا التنبّه لمسألة في غاية الأهمية ألا وهي أين الأمة الإسلامية من هذه الأحداث التي تحصل في بلادها؟ ولماذا لا يراعي هذا الكاتب الرأسمالي اليهودي أيّ اعتبارٍ لأمّةٍ يقارب تعدادها المليارين، وتعيش في أهم موقع جغرافي في العالم، وتمتلك من الثروات ما لا يقدّر بثمن، وتعبر أرضها جلّ التجارة العالمية، ولها من مقوّمات الوحدة والقوّة ما لا تملكه أيّة أمّة على وجه الأرض؟
وما الذي يجعل هذه الأمّة الإسلامية غير مُهابة ولا يُعمل لها أيّ حساب، بعدما كان لها ماضٍ وهي في طور نشأتها في هزيمة أقوى إمبراطوريتين هابتهما البشرية هما الفرس والروم؟ وبتعبير أدّق ماذا فقدت هذه الأمّة حتى باتت في ذيل الأمم الفاعلة في الحضارة الإنسانية وفي المدنيّة المعاصرة؟!
نعم يحق لنا التعجّب من حال هذه الأمة وما وصلت إليه من وهن وضعف وعدم اعتبار من أعدائها رغم ما عندها من مقوّمات العظمة والمهابة والقوة. فالوسائل المادية للوصول لهذه المكانة الرفيعة موجودة وبشكل أكبر مما امتلكه سلفها عندما فتحوا العالم، وهي ما تزال متمسّكة بدينها وقرآنها وسنّة نبيّها وبالتالي فعندها كذلك الناحية الروحانية، لكنّ جوهر ما فقدته هذه الأمّة هو سلطانها المتمثّل بالدولة الإسلامية.
فلا عَزّتْ أمّة مسلوبة السلطان، ولا هابت أمّة أخرى إلّا لسلطان، ولا حَمَتْ عِرضاً ولا نفْساً ولا مالاً إلّا بسلطان. وهذا الميزان للأمم تقاس به أمّة الإسلام، مع أنّها ليست كغيرها من الأمم فهي خير أمّة أخرجت للناس، أمرتْ بالمعروف ونهتْ عن المنكر وآمنتْ بالله، وكانت ملح صلاح الأمم قروناً، فمن يصلح فسادهم اليوم إذا الملح فسد؟
إنّ المتبصّر في حال أمّة الإسلام يرى بما لا يدع مجالاً للشك أنّها باتت ضعيفة ذليلة، لا حرمة لدمها وعرضها ومالها ولا يُرقَبُ فيها إلّاً ولا ذِمّةً، وباتت تُقتّلُ بأيدي أراذل البشر ومن ضربت عليهم الذّلّة والمهانة، وحتى بيد عبّاد الأصنام والبقر. هذا الواقع والحال يعيشه المسلمون أينما كانوا وفي شتى بلدانهم، وعلى أقل تعبير فهم يشاهدون عمليات القتل والإجرام والتشريد والإذلال بشكل يومي لإخوانهم، بمقاطع مصورة ترسل عبر مواقع التواصل أو من خلال النشرات الإخبارية. وهم في مشاهدتهم لهذه الفظائع يذوبون ألماً وحسرةً على حال إخوانهم ويقومون ببذل ما أمكن لهم نصرتهم من سبيل، لكنّهم يتغافلون عن حقيقة فرقتهم وتمزيقهم وعدم قدرتهم على نصر إخوانهم حقّ النصرة.
هذه الحقيقة التي أدركها المستعمر وهو يَهم بتقسيم بلاد المسلمين مزقاً بالية، لا تصلح تسميتها حتى بأشباه الدول لعجزها عن رعاية مصالح الناس، لا بل عن حماية نفسها من عدوٍ غاصب. فما إنْ أوجد الغرب في الأمّة أفكارها ومفاهيمها المنحطّة حتى أوردتها شقاء الدنيا قبل الآخرة والعياذ بالله، فشتت بذلك وحدتهم بعد أن جمعهم رسول الله ﷺ خلف دين واحد وإمام واحد وراية واحدة.
نعم إنّ المستعمر الحاقد على الإسلام والمسلمين لم يدخل بلاد المسلمين، بل لم يكن ليجرؤ على ذلك لو لم يجد تحت أقدامه من يطأه من الخونة، وممن شربوا أفكار الغرب الفاسدة من القومية والوطنية فأفسدوا على الناس دينهم ودنياهم. وأعانوا ملة الكفر على نشر قوانينه الفاسدة دون رادع ولا وازع، وقبِلوا أن يكونوا خدماً في تأمين مصالحهم، عندما تمكّنت من إزالة سلطان المسلمين ومصدر قوتّها وعزّتها المتمثّلة بدولة الخلافة. وقد أدرك ذلك جليّاً اللورد كرزون وزير خارجية بريطانيا آنذاك عندما احتجّ أحد النّواب في مجلس العموم على اعترافه باستقلال تركيا، فأجابه كرزون بقوله: "القضيّة أن تركيا قد قُضي عليها، ولن تقوم لها قائمة، لأننا قد قضينا على القوة المعنوية فيها: الخلافة والإسلام".
بقلم: الأستاذ عبد الله العلي
رأيك في الموضوع