إن المؤتمر الصحفي الذي عقدته حركة طالبان، كان بمثابة بوصلة تجاه الطريق الذي ستسلكه في حكم أفغانستان، وقد اتسم خطابها بلغة تصالحية مع الداخل والخارج الأفغاني، فقد ركز ذبيح الله مجاهد الناطق الرسمي باسم حركة طالبان على بعض النقاط؛ منها العفو العام عن الجميع، بمن فيهم من دعم القوات الأجنبية، كما تعهد بأن السفارات الأجنبية ستكون آمنة، وأن المشاركة في الحكم ستكون مكفولة للجميع، وأن المنافذ الإعلامية ستكون مفتوحة للجميع كذلك. وأيضاً تحدث عن حقوق الإنسان وحقوق المرأة.
لقد كان الكثيرون ينتظرون هذا الخطاب، من الداخل ومن خارج أفغانستان كي يحددوا مواقفهم، وقد جاء البيان وبحسب تقييم المتابعين بالجديد من طالبان، وفيه الكثير من إشارات التطمين، وهو ثمرة المفاوضات التي جرت في الدوحة بين طالبان وبين الأمريكيين، والتي استمرت لسنوات عدة، ومن نتائجها أن ضمنت لأمريكا خروجاً يحفظ لها ماء وجهها، كما ضمنت لطالبان العودة لحكم أفغانستان وفق شروط محددة. وبالرغم من أن الاتفاق يفضي إلى تنازلات كثيرة من طالبان، إلا أنه ولضمان تنفيذها له اتفقت كل الأطراف الداخلية والخارجية، رغم اختلاف مصالحها بل تناقضها في بعض الأحيان، اتفقت ضمنياً أن تستخدم مع طالبان سياسة شد الحبال، وذلك ليضمنوا سيرها في الطريق الذي رسمته أمريكا، والذي يفضي إلى الاندماج في النظام العالمي، والسير في ركابه.
فمن الحبال الداخلية التي تشد بها طالبان، المفاوضات التي يقودها عبد الله عبد الله، وحامد كرزاي الرئيس الأسبق لأفغانستان، وكذلك المظاهرات التي جرت في بعض المدن، والمقاومة المسلحة في الشمال التي يقودها أحمد مسعود، ونجل أحمد مسعود شاه، فكلها تشد طالبان في الطريق الذي رسمته أمريكا في الدوحة.
أما خارجياً، فقد توزعت الأدوار بين من سموا أنفسهم أصدقاء، ومن صنفوا أنفسهم بأشقاء الشعب الأفغاني؛ باكستان، وتركيا، وإيران.
أما باكستان فهي صاحبة القدح المعلى في جر طالبان إلى مفاوضات الدوحة، وهي الراعية لحركة طالبان، وهي التي ظلت ولا تزال تمدها بشريان الحياة حتى يومنا هذا، ففي الأيام القليلة السابقة فتحت المعابر إلى أفغانستان، فتدفقت الشاحنات التي تحمل المواد الغذائية لتفك الضغط الداخلي على طالبان.
أما تركيا فقد صرح أردوغان بأن بلاده منفتحة على التعاون مع حركة طالبان، وقد رحب بالتصريحات المعتدلة الصادرة عن قادتها، وقال في مقابلة تلفزيونية: "إن الوقوف بجانب طالبان في السراء والضراء، أحد متطلبات الوفاء بالعهد والأخوة"، وقال: "إن الوجود العسكري التركي سيقوي يد الإدارة الجديدة في الساحة الدولية، ويسهل عملها".
وقد كان موقف إيران مؤيداً لطالبان ولو على استحياء، حيث قال رئيسها إبراهيم رئيسي: "إن الإخفاق العسكري الأمريكي في أفغانستان يتيح فرصة لتحقيق سلام دائم في أفغانستان، وأن إيران ستساعد على تحقيق الاستقرار"، ودعا الأطراف الأفغانية كافة للعمل على تحقيق وفاق وطني في أفغانستان.
هذا الثلاثي (باكستان، وتركيا، وإيران)، وبلباسها ثوب الواعظين المهديين، ستعمل على شد الحبل في الاتجاه الأمريكي المطلوب.
أما روسيا والصين، فتعتبران نفسيهما أصدقاء لحركة طالبان، فقد أعلنت الخارجية الروسية أن سفارتها لدى كابل أبرمت اتفاقاً مع طالبان، يضمن أمن موظفيها، هذا وقد قال وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف: "إن روسيا ترحب ببيان طالبان بشأن استعدادها للدخول في حوار مع القوى الأخرى في أفغانستان"، وقال إن روسيا مستعدة لاستئناف العمل في ضيافة موسكو حول أفغانستان، وقال "إن روسيا تشجع على الحوار، وتسعى لترجمته إلى أفعال"، وقد انتقد حكومة أشرف غاني، ووصفها بعدم الجدية والفشل. وروسيا التي تلظت بنار الشيشان من قبل، لن تغيب عن مخيلتها بلاد القوقاز، وأهلها المسلمون الحانقون على روسيا واستثمارها لهم، لذلك فإنها تحرص على شد طالبان بعيداً عن الإسلام.
أما موقف الصين فقد عبر عنه المتحدث باسم الخارجية الصينية فقال: "إن بلاده تحافظ على اتصالات وتواصل مع حركة طالبان الأفغانية"، ويرى معهد جنوب شرق آسيا التابع لمعهد الصين للعلاقات الدولية، أن للصين ثلاثة محاور تربطها مع طالبان؛ سياسية، واقتصادية، وأمنية. فالاستقرار السياسي في أفغانستان له تأثيره الكبير على الوضع في الصين، أما الجانب الاقتصادي فقد اتجهت الصين للاستثمار في أفغانستان، ذات الموارد المعدنية النفيسة، وكذا بناء الحزام والطريق الذي يربط اقتصاد الصين برّياً بأوروبا، وبالقدر نفسه فإن أفغانستان ترى نفسها أنها في أمس الحاجة للاستثمارات الصينية، لمساعدتها في بناء اقتصادها المتهالك. أما التخوف الكبير لدى الصين فهو نابع من شعب الإيغور الذي يجاور أفغانستان، والذي يتوق للانفكاك من قبضة الصين الاستعمارية، فالصين تخشى من أي وجود إسلامي في أفغانستان، من شأنه أن يحرك كوامن المشاعر الإسلامية المكبوتة في قلوب شعب الإيغور، هذا ما يدفع الصين لشد الحبل لجر حركة طالبان بعيداً عن الإسلام.
وأما أمريكا، فهي التي وضعت السيناريو، وهي المشرفة على تنفيذه، وهي الممسكة بمعظم خيوط اللعبة تحركها كيف تشاء، لتحصل بها على مبتغاها.
أما موقف الدول الأوروبية، فقد أصبح حالهم كمن أصابه الرعب والفزع، فما يمر صباح أو مساء إلا ونسمع صريخاً من بون أو باريس، أو لندن، يتوعدون ويهددون طالبان بالعملة الدولية في حال اختارت طريقا غير المتفق عليه، ملقين باللائمة على أمريكا وفشلها في بناء ديمقراطية قابلة للحياة في أفغانستان.
أما الحبال الاقتصادية التي يجري لفها على عنق طالبان، لشدها من خلالها، فقد أعلن صندوق النقد الدولي أن أفغانستان لن يكون بمقدورها الوصول إلى موارد الصندوق، بما في ذلك تخطيط جديد لاحتياطات حقوق السحب الخاصة، وقال متحدث باسم الصندوق في بيان: "كما هو الحال فإن صندوق النقد الدولي يسترشد بآراء المجتمع الدولي"، ومن جانب آخر فقد أعلنت شركة وسترن يونيون المتخصصة في الحوالات المالية إلى أفغانستان، أنها علقت مؤقتاً كل التحويلات المالية إلى أفغانستان، علماً بأن هذه الحوالات تشكل مصدر تمويل حيوي للسكان، وأكد مسئول في الإدارة الأمريكية لوكالة فرانس برس أن: "أصول البنك المركزي التي تمتلكها الحكومة الأفغانية في الولايات المتحدة 9 مليار دولار لن تكون متاحة لطالبان".
إن القصد الأساس من شد كل هذه الحبال هو جر حركة طالبان بعيداً عن الإسلام، وسحبها إلى طريق التنازلات، وقد عبر وزير خارجية ألمانيا بلسان حال الجميع بأن "الحكومة الألمانية سوف توقف الدعم لطالبان إذا أعلنت الخلافة". فالخلافة هي مصدر الرعب، ونقطة إجماع كل أولئك الفرقاء.
نقول لحركة طالبان إن طريق التنازلات التي يطأونها هو بداية السقوط في الهاوية، فقد سلكته حكومة الإنقاذ في السودان من قبلكم فسقطت، وسلكه مرسي مصر فأسقط على عجل، وكذلك فعلت حركة حماس التي ارتضت اللعبة الديمقراطية فجنت منها تمزيق ما تبقى من فلسطين، ثم أمامكم حركة النهضة في تونس، التي أعلنت انسلاخها عن الإسلام بالكلية، وأقر زعماؤها بأنهم حزب علماني، فلم تشفع لهم هذه التنازلات، بل أخرجتهم من الحكم مطأطئي الرؤوس. فعلى طالبان أن يعلموا أن القبول بالعلمانية، والاشتراك فيها هو أمر لا يقبله الله، فالله طيب لا يقبل إلا طيبا.
إذا إرادت طالبان أن تسلك طريق الخلاص الذي يحقق العزة في الدنيا، والفلاح في الآخرة، فعليها أن تقطع جميع هذه الحبال التي علقت بها، وتستمسك بحبل الله المتين، فهو وحده المنجي والمنقذ، وإن طريقه هو الطريق القويم. وأن يتداركوا الأمر فلا يمكِّنوا أمريكا من تحقيق ما لم تستطع تحقيقه في الحرب.
رأيك في الموضوع