إن الكاهن اللاهوتي يوكايم مارك، تلميذ ماسينيون، أول من أطلق لفظ الدين الإبراهيمي كدين للفرد، وكان يقصد به الإسلام، إلا أنه ما لبث أن تحول إلى الجميع، مستخدماً ما يسمى بالدبلوماسية الروحية للإشارة إلى الأديان السماوية الثلاثة (الإسلام، واليهودية، والنصرانية)، ليطرح على إثر ذلك أفكار: وحدة الأديان، والتعايش بين الأديان، وحوار الأديان، وما إلى ذلك من مسميات، وقد استخدم هذا المصطلح لغايات براغماتية أكثر منها تاريخية، وهي محاولة تضليلية لإظهار أن هذه الديانات الثلاث متقاربة فيما بينها، علماً بأن النظرة لسيدنا إبراهيم عليه السلام، تختلف فيها هذه الأديان فيما بينها، ففي الوقت الذي ينظر اليهود إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام، على أنه أبو إسحاق وجدّ يعقوب وهو إسرائيل؛ أي أن إبراهيم هو جد اليهود، والنصارى ينظرون إليه مجرد شخص مؤمن نموذجي من حيث طاعته وإيمانه، إلا أنه ليس موحداً أبداً، أما الإسلام فينظر إلى دين إبراهيم، بأنه يتطابق مع دين الإسلام في التوحيد، قال تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلَا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، وقال سبحانه: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾.
ومن باب التضليل مسألة (التعايش السلمي بين الأديان) فإن المراد بها إبعاد الإسلام عن الصراع الدولي، بجعل الصراع صراعاً سياسياً عسكرياً بعيداً عن الإسلام، وبهذا يكونون قد ضمنوا ألا يخوض المسلمون أي نوع من الصراع، أو التدخل في أي قضية بوصفهم مسلمين، وهنا الفخ؛ حيث يرضى المسلمون بتقسيمات سايكس بيكو، ويخوضون الصراع بهذه الدويلات القطرية، والنتيجة محسومة قبل بدء الصراع، أما إذا كان الأمر متعلقاً بهم فلا مانع من الحرب على أساس الدين، وليس أدل على ذلك من تلك الحرب التي شنتها أمريكا على العراق، والتي رفع شعارها جورج بوش الابن، ووصفها بأنها حرب صليبية، وكذلك ما يفعله يهود في أهل فلسطين، حيث يحاربونهم لتكون دولتهم يهودية خالصة، وكذلك الحرب التي شنتها الدول الأوروبية على الشعائر الإسلامية، والتي يرفع لواءها، ويتولى كبرها؛ رئيس فرنسا ماكرون، وما قام به من حرب شعواء ضد المسلمين متمثلة في السماح بالإساءة لرسولنا ﷺ، لهو خير دليل على ما تكنه صدورهم. في الوقت الذي يشنعون فيه على المسلمين إنشاء أحزاب على أساس الإسلام، نجد أن هنالك عشرات الأحزاب الديمقراطية النصرانية في الغرب، ويعرّف الحزب الديمقراطي المسيحي بأنه يملك مفهوماً سياسياً قائماً على القيم النصرانية، وعلى مسؤولية الفرد أمام الرب.
أما ما يسمى باتفاقية (إبراهام) أو الوثيقة الإبراهيمية حيث أطلق عليها هذا المسمى ديفيد فريدمان؛ السفير الأمريكي لدى كيان يهود، فإن بها جملاً مضللة، وعلى رأسها هذا المسمى والمنسوب لسيدنا إبراهيم عليه السلام، والذي لا علاقة له بذلك، فهي في حقيقتها عبارة عن صك تنازل واعتراف وإقرار بسلطة كيان يهود على أرض فلسطين بما فيها الحرم القدسي الذي بارك الله حوله، ولكن لأن التنازل أو التطبيع مسمى قبيح لا يقبله المسلمون يحاولون التحايل عليهم بهذا المصطلح.
أما بنود هذه الوثيقة فهي تكاد تكون متطابقة لكل من الإمارات، والبحرين، والسودان، والمغرب، ومما ورد فيها:
- (أن البلدين يتطلعان لتحقيق رؤية تجعل الشرق الأوسط منعماً بالاستقرار والسلام)، هذه النقطة تعني أن لا نعمل على إخراج الكيان المغتصب والمستعمر بالقوة، والذي لا يسنده قانون شرعي، ولا وضعي، وله استعمال القوة ضد أهل فلسطين لأن ذلك يساعد على الاستقرار.
- (إن البلدين يرغبان في إقامة علاقات دبلوماسية طبيعية بالكامل)، وهذا يعني إقراراً تاماً بتمليك أرض فلسطين للكيان الغاصب.
- (شجع البلدان مساعي تعزيز الحوار بين الأديان بقصد ترسيخ ثقافة السلام بين الأديان الثلاثة، والأديان البشرية)، وهذا يعني تعطيل الجهاد حيث قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾.
- (يسعيان إلى اجتثاث الفكر المتطرف)، وهذا تضليل لأن المقصود هو اجتثاث أفكار الإسلام وأحكامه التي تدعو إلى الحكم بالإسلام، وهذا ما يخاف منه الغرب عموماً، وكيان يهود على وجه الخصوص، وهؤلاء الحكام الرويبضات أدوات لتنفيذ اجتثاث أحكام الإسلام ومحاربة حملة الدعوة.
هذه هي البنود التي سمح للإعلام بنشرها وما خفي أعظم.
أما الأكاذيب التي صاحبت هذه الوثيقة فهما كذبتان كبيرتان بكبر منصب من أطلقهما. لقد صرح عبد الله حمدوك؛ رئيس الوزراء السوداني، بأن هذه الحكومة، غير مخولة بتوقيع مثل هكذا اتفاق فلا بد من برلمان منتخب، وحكومة منتخبة، ولكن تفاجأنا بأن وزير عدله نصر الدين عبد الباري يطل علينا، ويخبرنا بأنه قام بتوقيع اتفاق (إبراهيم) مع كيان يهود وبحضور أمريكي، وبالمقابل صرح عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة بأنهم لن يوقعوا على التطبيع ما لم يصدر قانون من الكونغرس الأمريكي لحماية السودان من أي مساءلة قانونية، وقد أصدر الكونغرس قانون حماية السودان، ولكن استثنى ضحايا أحداث 11 أيلول/سبتمبر، فنحن وكأننا بعد أن فرحنا بالرفع من حفرة قائمة الإرهاب، وقعنا في بئر أحداث 11 أيلول/سبتمبر، ومع ذلك وقع السودان على هذا الاتفاق المشؤوم.
إن الكذب حرام شرعاً وعيب، وحرمته أشد وعيبه أكبر حينما يقع من رئيس القوم، فها هو أبو سفيان على كفره وشدة كرهه للإسلام ولنبيه، لم يتجرأ أن يكذب حتى لا تؤخذ عليه. ولكنها أيام الذل والهوان، فالسياسة صارت تضليلاً وكذباً على الناس، وما ذلك إلا لتمرير مخططات الدول الكافرة المستعمرة الطامعة في بلادنا، ولكن أظن أيامها صارت معدودة، وعمرها صار قصيراً، وفرج الله صار قريباً.
﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾
رأيك في الموضوع