لم يكن غريبا أن يتهافت حكام أبو ظبي والبحرين لتوقيع اتفاقيات مع كيان يهود تحت مظلة ترامب، ولن يكون مستغربا تهافت حكام عُمان والسعودية والسودان وتشاد وغيرهم ليسقطوا في القاع السحيق. ومنذ أن تمكنت بريطانيا وفرنسا وحلفاؤهما من بلاد المسلمين قبل وبعد انهيار دولة الخلافة العثمانية فقد ولدت ظاهرة العملاء من العرب والأتراك والفرس، والذين رهنوا إرادتهم ومقدراتهم لخدمة المستعمر وتنفيذ ما يخططه ويدبره لبلاد المسلمين.
ومن أجل كسب العملاء ورهن إرادتهم عمدت بريطانيا وفرنسا ومن بعدهما أمريكا إلى أداتين براقتين لجلب العملاء كي يتهافتوا في موقد المستعمر: الأولى هي أرقُ السياسة، وأما الثانية فهي وهمُ المال.
أما السياسة فقد كانت من أوائل ما استخدمته بريطانيا للتغلب على دولة الخلافة وهدمها. فقد أوقدت للشريف حسين وابنه فيصل ولعبد العزيز نارا تهافتوا فيها، حيث صور الإنجليز للشريف حسين إمكانية تنصيبه خليفة على بلاد المشرق العربي بدلا من السلطان العثماني، وتكون لأبنائه الإمارة في هذه البلاد. وفي الوقت نفسه هيأوا لعبد العزيز بن سعود ما يلزم من مال وسلاح لبسط نفوذه على نجد ومن ثم الحجاز. أما الشريف حسين وأبناؤه من بعده فقد أرّقتهم وعود بريطانيا، وجعلتهم مطية إلى يومنا هذا. فالشريف حسين لم يظفر بشيء من وعود بريطانيا السياسية، وابنه فيصل أخرجته فرنسا بالاتفاق مع بريطانيا من سوريا، وفرّ إلى العراق إلى أن قُضي على ملكهم في العراق سنة 1958. وأما عبد الله بن الحسين فقد أقامت له بريطانيا إمارة مؤقتة سمتها (انتقالية) في شرق الأردن، وسلبتها كل مقومات الدولة ليبقى هو ومن يأتي بعده في شرَك سياسي كثير الأشواك، لا يتحرك حركة إلا وخزته هذه الأشواك، إلى أن اغتالته بريطانيا حين ظن أن أمريكا قد تنقله من شرك الإنجليز إلى شركها الجديد. أما ابن سعود فقد بقي هو وعائلته أسرى بيد الإنجليز على اعتبار أن بريطانيا هي ولية نعمتهم السياسية وهي التي مكنتهم من بسط نفوذهم على نجد والحجاز.
وفي تركيا تمكنت بريطانيا من رهن إرادة مصطفى كمال حين عملت على إيصاله إلى أعلى مراتب السلطة ليكون أسيرا للشرك السياسي الذي نصبته له بريطانيا، وبقي مصطفى كمال في أرَقٍ دائم بين الشعور بالعظمة المتولدة عن حكم تركيا وبين الشعور بالذل جراء رهن إرادته بالإنجليز؛ فهو لم يختلف في هذا عن فيصل والشريف وابن سعود.
وهكذا فقد أصبح العملاء يتهافتون بالعشرات بل بالمئات على البعثات الإنجليزية والأمريكية ليصبحوا عملاء سياسيين من الفئة الأولى ليكونوا حكاما. وأصبحت لبريطانيا وأمريكا أوكارٌ معروفة لتجنيد العملاء بعد إغرائهم بمناصب سياسية على أعلى المستويات. وقد أورد عميل الاستخبارات الأمريكية مايلز كوبلاند في كتابه "لعبة الأمم" وكتابه "اللاعب واللعبة" أمثلة كثيرة عن الأوكار التي كانت تستخدمها بريطانيا وأمريكا لاصطياد العملاء والإيقاع بهم. ولعل أغربها طرافة هي مراقص الدراويش حيث كانت تقام حضرات رقص الدراويش في مصر، ومثلها الصالونات في بيروت ودمشق.
وقد بلغ الأمر في تهافت عملاء السياسة أن تلاحقت الانقلابات التي يقودها عميل جديد على عميل سابق حتى غدت في سوريا على سبيل المثال الانقلابات العسكرية على أيدي العملاء لا تستمر أكثر من أسبوع. وهكذا انتهت الحالة في بلاد المسلمين عامة إلى رهن القيادات السياسية على أعلى مستوياتها لبريطانيا أو أمريكا وأحيانا فرنسا، وأصبح الوسط السياسي في بلاد المسلمين موبوءا بالأرق السياسي الذي بات يؤرق أفراد هذا الوسط ويجعلهم في لحظة انتظار دائم لتوصلهم عمالتهم لسدة الحكم! وحين يصل أحدهم ليكون رئيس دولة أو ملكاً يقضي على والده أو أخيه، يزداد الأرق عنده للمحافظة على ما اكتسبه من خطيئة العمالة والتبعية.
ولما ألقت أمريكا بثقلها في بلاد المسلمين، وعملت لتحل بنفوذها مكان النفوذ البريطاني والفرنسي، أضافت إلى أرق السياسة وَهْمَ المال ليبقى العميل في الشرك إلى أن يتم رميه والتخلص منه. ومن ذلك أن أمريكا استغلت نفوذها وسيطرتها على البنك وصندوق النقد الدوليين ومؤسسات المال العالمية لإغراق الدول بالديون، ومن ثم السماح لهذه الديون أن تنتهي بحسابات شخصية للعملاء. فمن جهة جعلت الدولة التي يترأسها عميل مدينةً بشكل كاسح لا تقوى على الخروج من دَيْنها والتمتع بثرواتها، بل تصبح جميع ثرواتها مرهونة لمؤسسات المال الأمريكية. وفي حال تباطأ العميل عن خدمة سيده، فالعلاج جاهز؛ مطالبة بالدين لا يقوى عليها العميل ولا دولته. وفي حال الاستغناء عن خدمات العميل فتتم مصادرة كل دولار كان يتوهم أنه ملكه وتحت سيطرته. فعلى سبيل المثال حين طُرد الشاه من إيران، لم يتمكن من الحصول على جزء ولو بسيط من الأموال التي تكدست في بنوك أمريكا إبان حكمه، وأصبح يتسول مكانا يلجأ إليه بعد عزله! وحين أطاحت الثورة بحسني مبارك سنة 2011 لم يجد شيئا من المليارات التي توهم يوما ما أنها ملكه وتحت تصرفه، فكان المال الذي وقع مبارك في شركه وهماً من الأوهام التي جعلته يتهافت في دوامة العمالة والتبعية... ومثل مبارك كان زين العابدين بن علي والذي وجد كل ما ظنه مالاً ليس إلا وهماً تلاشى لحظة الخلاص منه في ثورة 2011...
أما الشكل الثاني للوهم المالي فهو ذلك المتعلق بأموال النفط؛ فقد جعلت أمريكا منها شركا ضخما أسقطت فيه حكام الخليج والسعودية والدول المنتجة للنفط التي باتت تظن أنها تملك ثروة طائلة تعمل بها ما تشاء. والحقيقة أن أمريكا حين عمدت إلى رفع سعر برميل النفط سنة 1973 فإنها جعلت هذا الارتفاع موازيا لارتفاع سعر الذهب وهو المال الحقيقي. فتوهم أمراء النفط أن أموالهم زادت على وجه الحقيقة، وهي في الواقع قد ارتفعت أرقامها ولم ترتفع قيمتها أبدا! ثم إن أمريكا ربطت سعر النفط وتسويقه بالدولار فجعلت قيمة النفط المالية مرتبطة ارتباطا جذريا بشراء النفط مقابل الدولار، ففي الوقت الذي تقرر أمريكا التخلي عن ربط الدولار بالنفط فإن مليارات الدولارات من مال النفط تتبخر إلى ما دون الصفر، كما حصل يوم 20/4/2020 في ظل أزمة كورونا. ولا شك أن حكام وأمراء النفط يعلمون بكل تأكيد أن ما لديهم من أموال نفطية قد تتبخر بمجرد قرار سياسي يتعلق بالعلاقة بين الدولار والنفط، أو بسعر الذهب. ولعل هذا الوهم المالي المتعلق بوجود مليارات من الدولارات النفطية هو ما يجعل أصحابها في غاية الأرق ودوام الارتكاس في حمأة العمالة.
وهكذا كانت أوهام المال سببا لتهافت العملاء في شرك العمالة، سواء أكان العميل فقيرا ابتداء وتم إغداق المال عليه من قروض ومساعدات وغيرها، فظن أنها ملكه على وجه الحقيقة وهي ليست إلا وهماً، أم كان العميل من أمراء النفط الغزير فأصبح لنفطه سعر مالي عال وهو يعلم أن هذا السعر مرهون بإرادة سيده المستعمر، فكان سببا لتهافته وارتكاسه.
وكذلك أرق السياسة والبحث عن منصب وسيادة أو قيادة من خلال دوائر الاستخبارات الأمريكية والبريطانية وأوكارها، ما يجعل العملاء يتهافتون ويرتكسون في حمأة العمالة ويصبحون وقودا لحرق البلاد والعباد والتفريط في قضاياها المصيرية. فكان حال هؤلاء العملاء كمن وصف الله تعالى حالهم وهم يعيشون ظلمات دامسة: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾.
رأيك في الموضوع