مائة سنةٍ ستمر منذ إنشاء الكيان اللبناني، منذ بدأت الدول الأوروبية - وفي مقدمتها فرنسا - تمد نفوذها داخل دار الإسلام، الخلافة... حتى بلغ تدخل هذه الدول مبلغاً عظيماً في شؤون الخلافة، من خلال ادعائها حماية (الأقليات) داخل الدولة، لا سيما في منطقة جبل لبنان. حتى أقدمت فرنسا في الأول من أيلول سنة 1920م على إعلان دولة ما يسمى لبنان.
رُكب هذا الكيان بشكلٍّ طائفيٍّ، فكان كياناً وليس مجتمعاً بمعناه الحقيقي، أي المجتمع المترابط بنسيج من الأفكار والمشاعر المتكاملة المتناغمة التي يُكَمِّل بعضها بعضاً، والتي تنتج سلطةً من جنس هذا النسيج، ترعى شؤون الناس بالأنظمة والتشريعات، التي يتوافق عليها الناس ومن يرعاهم. فلبنان عبارةٌ عن مجموعات عدة، كل منها يشكل تجمعاً متميزاً، بحيث إن العرف السائد في هذه المجموعة يختلف عن العرف السائد في سائر المجموعات الأخرى، التي تكونت بالعصبيات الطائفية؛ فالطوائف هي الوحدات الجامعة للناس في هذا الكيان المصطنع. حتى هذه الطوائف فإنها لا تربط أبناءها برباط مجتمعي حقيقي، بل يرتبطون فيما بينهم شعورياً، وينفصلون عن سائر الطوائف شعورياً أيضاً، فهي إذاً عصبية أشبه بالقبلية.
إذن، فلا مجتمع حقيقياً في لبنان، ولا نظاماً حقيقياً ينبثق من الناس ليرعى شؤونها، بل أحزابٌ وجماعاتٌ مبنيةٌ على أساس طائفي صِرف، وحين تقع أي مشكلةٍ ينحاز كلٌ إلى عصبيته وطائفيته النتنة، بل تقسم مؤسسات هذا الكيان وموظفوها على أساس الطائفة؛ فصندوق مهجرين للدروز، ومجلس الإنماء والإعمار للسنة، ومجلس الجنوب للشيعة، والكازينو للموارنة... وهكذا، ومن هنا تصبح الدولة والسلطة نهباً وغنيمةً، يُثرى بها الزعماء وبطانتهم على حساب الناس، دون أي اعتبار لمصلحة الإنسان، مطلق إنسان، بوصفه إنساناً!
وهذا ما أفقد الناس أفراداً وعائلات، أساسيات عيشهم التي تجعلهم يبقون في بلدٍ هذه صفته، ولعل حديث رسول الله ﷺ يختصر مشهد لبنان المؤلم، الذي يُدفع أبناؤه دفعاً نحو الهجرة، يقول رسول الله ﷺ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا«.
فالإنسان في لبنان إن لم ينحز لعصبية تحميه، أو طائفةٍ توظفه، فلا أمان له في محيطه، ولا علاج له في مرضه، وما زاد الطين بِلة أزمةٌ اقتصاديةٌ خانقةٌ تمثلت مؤخراً بانهيار سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار، لتفقد العملة كل قيمتها تقريباً، حتى أصبح كثيرٌ من الناس عاجزين عن تأمين قوت يومهم، وما حالات الانتحار المتكررة، وحالات السلب والنهب التي باتت بارزة في الآونة الأخيرة، إلا تعبير عن هذا الحال، إذن فلا أمان، ولا عافية، ولا قوت يومٍ. حتى من وضع بعض مدخراته في البنوك الربوية، مهددٌ اليوم بشكلٍّ جدي بخسارة أمواله، نتيجة تلاعب الدولة، ممثلةً بمصرفها المركزي بودائع الناس، على مدى سنواتٍ طويلةٍ، جعلت البلد يرزح تحت دينٍ قارب المائة مليار دولار، ما يجعل أجيالاً من الشباب واقعة تحت نير هذا الدّين وسداده من قوت يومهم ومدخراتهم، بل إن الدولة ساعيةٌ للارتباط بصندوق النقد الدولي، الأمر الذي يظهر عمق أزمة لبنان، بل عمق أزمة أجيالٍ قادمةٍ، إن بقي هذا النظام.
فخيبة الأمل لدى أهل لبنان كبيرة؛ فأياً كان مستوى تعليمهم، فإن الوظائف غير متوفرة، وحتى الرواتب لا تؤمن احتياجاتهم، إضافة للتراجع الشديد في مستوى المعيشة والأوضاع المالية والاقتصادية، والتدهور البالغ في الخدمات العامة، مثل الكهرباء والمياه والنفايات والرعاية الصحية والضمان (الاجتماعي). حتى إن الدولة منذ حوالي الشهر لا تستطيع تأمين التغذية الكهربائية لأكثر من ساعتين يوميا! بحيث أصبحت مشكلة الكهرباء في لبنان مدار تندرٍ دولي وابتزاز من صندوق النقد الدولي، الذي إن دخلت لبنان في منظومته، فإن ذلك يعني الذهاب لعمق الهاوية، مع الشروط التي سيفرضها الصندوق؛ من تحرير سعر الصرف، ورفع الدعم عن السلع الأساسية، وخصخصة وبيع أصول الدولة، ورفع الضرائب، وتقليص وظائف القطاع العام.
لذا كانت الهجرة، والهروب من هذا الوضع القائم حالياً، هي مفتاح "الحل" في نظر أبناء لبنان، على اختلاف تقسيماتهم، ولم يعد الأمر متعلقاً فقط بالفقراء من الناس والمساكين، بل حتى أصحاب الأحوال المتوسطة بل الميسورين، بسبب ما آل إليه حال البلد، من انعدام الأمن الشخصي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، الذي هو مفتاح الاستقرار. وحسب بعض الإحصاءات فإن الهجرة ارتفعت بنسبة 42%، فمنذ منتصف كانون الثاني ومنتصف تشرين الثاني 2019، غادر لبنان حوالي 61.924 مقارنة بـ41.766 خلال المدّة عينها من 2018.
أما السؤال (هل الهجرة هي الخيار الوحيد؟!)، فإننا نؤكد بالفم الملآن، أن الهجرة لم تعد خياراً، وإنها وإن كانت كذلك ردحاً من الزمان، فإنها في أيامنا هذه أضحت خطراً على الأفراد والعائلات، مع ما نراه من تنامي العنصرية في تلك البلاد، وما نراه من انكشاف عورة الأنظمة الرأسمالية هناك لنواحي الرعاية، وبخاصةٍ مع ظهور جائحة كورونا، التي ضربت أنظمة صحية بأكملها في إيطاليا وإسبانيا وأمريكا وبريطانيا... لكن التفكير داخل الصندوق يجعل أفق الحل عند الناس - لا سيما الشباب منهم وهم الأكثر هجرةً - مسدوداً.
لذا فإن الدعوة للتفكير خارج صندوق هذا الكيان، هي أصل الحل وبدايته، فلبنان قطعة من صميم البلاد الإسلامية، وهو امتدادٌ طبيعي وبشري واجتماعي للمنطقة بحلوها ومرّها، فما يمر به لبنان، يمر به أبناء البلاد الإسلامية من شرقها إلى غربها؛ من انعدام الأمن بكل أشكاله، وبالتالي فإن الناس في هذا البلد، يجب أن يكونوا معنيين بخروج المنطقة كلها من أزماتها وانحطاطها، فإذا نهضت البلاد الإسلامية، فسيكون للبنان سهمٌ كبيرٌ في هذه النهضة؛ هذه النهضة التي لن تجعل لبنان ممر مؤامرات، أو محطة صراعات، كما كان وما زال حتى اليوم، وستعيد لبنان إلى أصله، جزءاً حضارياً وسياسياً واجتماعياً، فوق كونه جزءاً جغرافياً وطبيعياً، من العالم الذي يحيط به، وحينها فقط يخرج لبنان من أزماته بكل أشكالها، عبر كونه جزءاً من المجتمع الأوسع الذي يمتد بين المحيطين الهادئ والأطلسي، والذي يتأهب لتحطيم الحدود المصطنعة، واستئناف الحياة الإسلامية، واستعادة الهوية وطريقة العيش، التي تكفل لأبنائها في لبنان وغيره العيش الآمن الرغيد في الدنيا، ورضا الله سبحانه في الآخرة.
مختصر القول: لبنان منذ مائة سنة يسير من فشلٍ إلى فشل منذ انفصاله عن أصله الخلافة، ولن يعود إلى السير الصحيح إلى بقيام الأصل؛ الخلافة على منهاج النبوة، وعودة لبنان إليه.
رأيك في الموضوع