وقع رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان يوم الخميس 10/7/2020م على قانون التعديلات المتنوعة (إلغاء وتعديل الأحكام المقيدة للحريات) لسنة 2020م، وبالاطلاع على الجريدة الرسمية العدد (1904) المؤرخ بـ13/7/2020م نجد أن أغلبية التعديلات المتعلقة بالقانون الجنائي حوالي 35 مادة، بالإضافة إلى قانون الإجراءات الجنائية حوالي 3 مواد، وقانون الأحزاب مادة واحدة، وقانون الأمن الوطني 5 مواد، وقانون المرور مادة واحدة، وقانون جوازات السفر والهجرة 3 مواد، وقانون النيابة العامة مادتان، وقانون مكافحة جرائم المعلوماتية 34 مادة، بالإضافة إلى إصدار قانون مفوضية إصلاح المنظومة الحقوقية والعدلية لسنة 2020م.
أما حقيقة هذه التعديلات فهي؛ إلغاء للمادة 126 حد الردة، وإعادة تعريف البالغ بوصفه من أكمل ثماني عشرة سنة، وتتبع لعقوبة الجلد غير الحدية (حتى بحق الصبي المميز) وإلغائها من جميع القوانين؛ الجنائي وقانون المرور وغيرها، وإسقاط المعيار الشرعي للدية، ولقطع يد السارق، وقصر عقوبات التعامل في الخمر؛ البيع والشراء والصنع والحيازة والنقل، على المسلمين فقط، وإلغاء الإعدام على المدان بفعل قوم لوط للمرة الثالثة، وجعل الإدانة بجريمة الدعارة حصراً في الأماكن الخاصة بها... أما حقيقة تعديلات قانون الإجراءات الجنائية فهي؛ السماح بتسليم المتهمين من رعايا الدولة لمؤسسات التقاضي العالمية مثل المحكمة الجنائية الدولية، وبالنسبة لقانون الجوازات التعديل الأبرز هو؛ مساواة المرأة بالرجل في أن تسافر بأطفالها من غير أن يأذن والد الأطفال.
في حديثه عن هذه التعديلات تعهد رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، باستمرار المراجعات والتعديلات القانونية، حتى تعالج التشوهات في النظم القانونية في السودان كافة.
لا شك أن هذه العبارة تصف الواقع بشكل دقيق؛ معالجة التشوهات في النظم القانونية، فهي كلمة حق أريد بها باطل، فالتشوه آت من جهة مخالفة هذه المواد للقانون الأساس؛ الوثيقة الدستورية، والتي هي قانون وضعي يقوم على أساس حضارة الغرب الكافر؛ أي فكرة فصل الدين عن الحياة، أما المواد التي تم إلغاؤها أو تعديلها فهي أحكام شرعية، تقوم على أساس عقيدة الإسلام، مثل تعريف البالغ، أو الجلد تعزيراً، أو القتل للمدان بفعل قوم لوط، أو قتل المرتد، أو ولاية الرجل على المرأة وغيرها... لذلك يوجد تناقض أوجد هذا التشوه فالدستور الذي يتضمن المواثيق الدولية، وحقوق الإنسان، والحريات العامة، ومساواة المرأة بالرجل، لا يمكن أن تنبثق عنه أحكام شرعية، بل لا يقبل بهذه الأحكام الشرعية، إلا من باب الجمع بين النقيضين.
لذلك كان رأس الداء وأس البلاء، هو أن يكون أساس الدولة دستوراً وضعياً باطلاً، يفصل الدين عن الحياة، ويحمل في أحشائه موانع الحياة على أساس الإسلام، وأقصد بذلك ثلاثة أفكار وهي: الحريات العامة، وحقوق الإنسان، ومساواة المرأة بالرجل. هذه الأفكار التي اكتسبت زخماً وبريقاً أعمى الأبصار، حتى أصبحت من المسلمات التي لا يتصور الناس العيش الكريم إلا بوجودها في دساتيرهم وحياتهم العامة، فما هي حقيقة هذه الأفكار وما هو مصدرها ومنشؤها؟
في العصور الوسطى، وهي حقبة تاريخية خاصة بالقارة العجوز أوروبا، استعبد الملوك، بسلطان من رجال الدين، الشعوب الأوروبية وساموها خسف العذاب، بحجة الحق الإلهي، فثار المفكرون والشعوب على هذا الظلم والاستعباد يطلبون الحرية، وبعد صراع دموي توصلوا إلى حل وسط ألا وهو؛ فصل الدين عن الحياة، وجعلوا الحريات العامة هي أساس الحياة لذلك تم إعلاء قيمة الحريات واكتسبت زخماً، لكن لا توجد حرية مطلقة بمعنى الانفلات من كل قيد، لذلك يجب أن تقيد الحريات فاتفقوا على تقييد الحريات بالقوانين والتشريعات الوضعية التي يضعها المشرعون نيابة عن الناس، بوصف الشعب مصدر السلطات، ومن أجل ضمان عدم تغول الحكومات على الحريات وضعت ما تسمى بحقوق الإنسان كضمانة. ورد في تعريف الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بأنها: (ضمانات قانونية عالمية لحماية الأفراد والجماعات من إجراءات الحكومات التي تمس الحريات الأساسية والكرامة الإنسانية). وصدر في 15 كانون الأول/ديسمبر 1948م الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ليكون شرعة عالمية، ثم نظروا للوضع المزري، والتمييز الذي كانت تعيشه المرأة في المجتمعات الغربية، وللحاجة إلى المرأة كيدٍ عاملة بعد موت الرجال في الحربين العالميتين، كل ذلك حتم مساواة المرأة بالرجل، لذلك كانت فكرة حقوق الإنسان ومساواة المرأة بالرجل؛ هما الضمان لفكرة الحريات، خاصة وأن الحاكم عندهم هو أجير عند الشعب، لذلك كان لا بد من وضع ضمانات كافية لعقد الإجارة حتى لا تنتقص الحريات المزعومة.
إن أساس التشريعات في الغرب هو فصل الدين عن الحياة، والميزان الذي يضبط الأساس أي الدستور بالبناء أي القوانين هو أفكار الحريات، وحقوق الإنسان ومساواة المرأة بالرجل.
وبالنظر إلى جميع الدساتير التي حكمت بها السودان، نجد أنها كانت في أساسها تقوم على فصل الدين عن الحياة، لذلك كانت تسن بالأغلبية؛ إما أغلبية الشعب عن طريق الاستفتاء، أو أغلبية النواب (ممثلي الشعب)، ولم يكن مصدرها على الإطلاق الوحي، بل كانت جميع الدساتير خاصة دستور 2005م، والوثيقة الدستورية 2019م تتضمن وثيقة الحريات العامة، وحقوق الإنسان، ومساواة المرأة بالرجل، وهذا يعني ببساطة التأسيس لحياة غير إسلامية تقوم على أساس المعصية، ولا تقيم وزناً للأحكام الشرعية ولا لمقياس الحلال والحرام.
هذا هو أساس التشريع في حضارة الغرب الكافر؛ الحريات وحقوق الإنسان، ومساواة المرأة بالرجل، لذلك فإن وجود هذه الأفكار في الدستور، وهو القانون الأساس، لأي بلد من بلاد المسلمين، يمنع وضع أي حكم شرعي في أي قانون جزئي آخر، ويعد ذلك تشوهاً، فمثلاً الزنا يعتبر حرية شخصية، والردة تعتبر حرية معتقد، ورمي المحصنات الغافلات وسب الذات الإلهية والتطاول على مقام النبي ﷺ... كل ذلك يعتبر حرية رأي، وشرب الخمر والشذوذ الجنسي يعتبران حرية شخصية، وأن يكون للذكر مثل حظ الأنثيين وتعدد الزوجات والقوامة والولاية كل ذلك يناقض فكرة مساوة المرأة بالرجل.
إن ما كانت تفعله حكومة الإنقاذ بأنها كانت تنافق المسلمين بشعارات الإسلام وبعض الأحكام الجزئية في العقوبات وغيرها في الوقت الذي تنافق فيه الغرب بالنص في دساتير الدولة للعام 1998م أو للعام 2005م على أفكار الحريات وحقوق الإنسان ومساواة المرأة بالرجل؛ هذا الواقع أوجد حالة من التناقض المزري وهو تشويه لأحكام الإسلام.
إن الإسلام ليس مجرد نظام عقوبات فقط، حيث تطبق حضارة الغرب الكافر، الآسنة على الناس، ثم من يخالف منهم نظام الغرب الكافر وشرعته، يعاقب بالإسلام، بل يجب تطبيق الإسلام كاملاً بوصفه نظاماً للحياة، ومن يخالف أنظمة الإسلام يعاقب بأحكام الإسلام، وإن هذا الواقع لكائن في القريب العاجل، في ظل دولة الخلافة الراشدة، فهي وحدها التي سوف تأتي على أنظمة الغرب الكافر وتشريعاته وحضارته، فتنسفها في اليم نسفا، وتذرها قاعاً صفصفا، وتؤسس لحياة إسلامية زاهية في بلاد المسلمين، وتحمل هذا الخير إلى العالم.
بقلم: المحامي حاتم جعفر
عضو مجلس الولاية لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع