لا نبالغ إذا قلنا إن ليبيا اليوم هي رهينة الصراع الدولي المحتدم، أدواته أهل ليبيا أنفسهم مع العديد من المرتزقة من شذاذ الآفاق، جاؤوا من بقاع متباعدة متمرسين في قتل البشر والتنكيل بهم بكل حماسة - وكأنهم يزاولون أعمالاً الجزاء فيها يعتمد على كثرة المنجز منها -! ظهر هذا جليا في عمليات غاية في الهمجية والوحشية من مثل تفخيخ بيوت السكان المهجر منها أهلها بالألغام والمتفجرات في كل شيء في البيت، حتى ألعاب الأطفال والأبواب وتحت الأسرّة، وكان هذا الإجرام وهم فارّون منسحبون من جنوب طرابلس، فأيّ حرب قذرة هذه؟!
وأخذ هذا الصراع أشكالا عدة منها العسكري المشاهد، والاقتصادي الذي جرّ إلى إقفال الموانئ النفطية على طول الساحل الليبي، وقفل الحقول النفطية التي تغذي كل الموانئ. وهي ليست المرة الأولى التي تقفل فيها الموانئ والحقول، إلا أن هذه المرة من الواضح أنها كانت بأمر من سيدهم الأمريكي ولذلك استمر الإقفال، ويرافقه تهريب النفط إلى نظام السيسي في مصر.
أما مظاهر الصراع السياسي المحتدم، وهو الأصل والدافع لما يحصل من أحداث:
- التقاذف بالتهم بين الإيطاليين والفرنسيين، كلّ يتهم غريمه بأنه سبب الفوضى في ليبيا.
- دخول الدور الروسي الجديد على واجهة الأحداث، وما صاحبه من التنصل من مسؤوليتهم تجاه منظمة "فاغنر" الروسية الإرهابية.
- هذا التسارع الآن على طلب وقف إطلاق النار بعد ما أحرزه الثوار من انتصارات واضحة على الأرض ضد فلول حفتر.
- محاولة الجزائر التقدم للقيام بدور في حل المسألة الليبية!! بعد الدخول التركي بقوة في دفع الأمور إلى حال جديدة، لعلهم يحظون بدور نيابة عن سيدهم الأوروبي.
- التهويل والتحذير الفرنسي من "سورنة" الأزمة الليبية. والضغط في اتجاه وقف إطلاق النار. في الوقت الذي كانت فيه فرنسا إلى وقت قريب هي من يشعل نار الحرب ويذكيها بالمال والسلاح والخبراء. كل هذا النفاق بعد أن تأكد لديهم أن أمريكا لم تعد ترى في حفتر خيارها الأول والأوحد، بعد الدخول التركي الذي ما كان لولا الضوء الأخضر الأمريكي، ولذلك ظهرت جملة من المواقف والتبدلات على الساحة:
- بعد الدعم التركي لحكومة السراج، بدأ سقوط دفاعات حفتر ومواقع سيطرته في جميع الجبهات والمدن في يد الثوار وجيش الوفاق. خمس مدن كبيرة خسرها حفتر ومن بينها قلعته الحصينة ترهونة وقاعدة الوطية الاستراتيجية، كل هذه سقطت في مدة وجيزة وبعضها من دون قتال كما هو في ترهونة.
- رافق هذا كله انسحاب مرتزقة "فاغنر" الروس من جنوب طرابلس بعد أن استحر فيهم وفي غيرهم القتل. وكان انسحابهم على الأغلب بعد تفاهم تمّ بين الروس والأتراك لضمان انسحابهم بسلام دون تعرضهم للقصف الجوّي والمدفعي، فكان هذا علامة على حدوث اتفاق ما! رسمت بمقتضاه خارطة طريق جديدة لسير الأحداث.
- سقوط بني وليد من دون قتال، والاتفاق مع وجهاء المدينة وعميد البلدية على أن لا يحصل صدام مع الأهالي سكان بني وليد الذين هم في أغلبهم أنصار النظام السابق.
- وأنا أكتب هذه المقالة تأتينا الأخبار بالتقدم على مشارف مدينة سرت التي تعتبر هي الحاضنة الأساسية لأنصار النظام السابق المتحالفين مع حفتر، فبسقوط سرت يكون الغرب الليبي بأكمله سقط في يد الثوار وحكومة السراج. فهل تقف حملة الثوار وحكومة السراج ضد حفتر عند هذا الحد؟ أم أن الأمور تذهب إلى الأمام فتفتح معركة المناطق الشرقية؟
بالطبع الآن الأنظار تتجه إلى مناطق الجنوب أولا. فحفتر لم يتبق له سوى قاعدة الجفرة في الجنوب، وبسقوطها يسقط الجنوب كله في يد الثوار وحكومة السراج.
فما هو مصير حفتر؟ وهل يبقى له من دور؟
خروج أردوغان والسراج في مؤتمرهما الصحفي المشترك، وتأكيد السراج بأن حفتر لا يمكن الجلوس معه ولا يمكن الحوار معه، وقول أردوغان "بأنه يجب أن يحاسب حفتر على جرائمه..." وتأكيد السراج بأن "حفتر لن يكون شريكا في أي حل سياسي أو حوار" هذا يدل - وكلمة السر عند أردوغان - على تغيير في المسألة الليبية، يبدو من ذلك أن أمريكا مطمئنة إلى سير الأحداث وأن الأوروبيين الآن هم الحلقة الضعيفة التي لا تستطيع التأثير في النتائج. وخصوصا بعد خضوع السراج وحكومته للوجود التركي في البلد بعد أن كسب هذا الوجود تأييدا واسعا له في صفوف الثوار والشعب، بعد ما تلقوه من دعم بالسلاح والخبرات التي قامت بتدريب أعداد من الثوار. وهذا يسمح بعدم تمكين البلد من لملمة أوضاعه والانطلاق إلى مرحلة إزالة آثار الحرب وإعادة عجلة البناء.
فأدوات التوتير تبقى متوفرة في أيدي المهيمنين وصانعي القرار، مما يسمح لترامب باستغلال النتائج في دعايته الانتخابية، وفي الوقت نفسه تبقى إمكانية توتير الأوضاع متوفرة متى شاءت أمريكا.
فعلى المخلصين في الأمة، وهم كثر والحمد لله، إدراك هذا الواقع والعمل الجاد على إخراج البلد من أيدي العملاء والمرتبطين بالدول الكبرى. فالذين يملكون السلاح الآن قادرون بإذن الله تعالى والاستعانة به والتوكل عليه من القيام بهذه المهمة الجليلة. ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾.
رأيك في الموضوع