لقد تداعت مسألة انخفاض الطلب على النفط وما تبعها من زيادة إنتاج النفط السعودي والروسي وحرب الأسعار بينهما إلى أن هبط سعر برميل النفط في سوق غرب تكساس إلى أقل من دولار، ما يعني أن منتجي النفط اضطروا لدفع 37 دولاراً عن كل برميل للمشترين القادرين على إعادة تسويق النفط أو نقله من خزانات النفط في أمريكا.
ولكي ندرك أبعاد هذه العملية التاريخية والتي حدثت لأول مرة في تاريخ تجارة النفط، لا بد من الإشارة إلى عدة أمور. وبداية نشير إلى ردة فعل الإدارة الأمريكية التي لم تكن على مستوى الصدمة والكارثة كما هو متوقع في مثل هذا الأمر. فالرئيس ترامب صرح بأن حكومته ستشتري 75 مليون برميل لإضافتها إلى المخزون الاحتياطي الأمريكي. ومن ثم طلب من الكونجرس الإذن بتعويض شركات النفط عن خسارتها حتى لا تتأثر بالبيع بخسارة. ومن ثم أكد أن هذه الأزمة المتعلقة بالنفط هي مؤقتة.
ثم لمحاولة فهم الواقع واستشراف المستقبل لا بد من إعادة الذاكرة إلى الارتباط التاريخي الذي حصل بين النفط والدولار منذ عام 1973. فبعد أن خرج العالم من الحرب العالمية الثانية عملت أمريكا على صياغة النظام العالمي سياسيا من خلال مجلس الأمن الدولي ومن ثم الأحلاف الدولية، وماليا من خلال اتفاقية بريتون وودز وصندوق النقد والبنك الدوليين، حيث ربطت الدولار بالذهب بسعر محدد لأوقية الذهب بحوالي 35 دولاراً، ثم ربطت عملات الدول الأخرى بالدولار بحيث تتمكن هذه الدول من شراء الدولار أولا ثم تحويل ما لديها من دولارات إلى ذهب في حال رغبت بذلك. فضمنت أمريكا بذلك حاجة الدول للدولار وسعيها للحصول على الدولارات إما عن طريق قروض مدفوعة بالدولار، أو بيع بضائعها وخدماتها مقابل الدولار. ومن ثم حصلت أمريكا رسميا على إذن وتصريح بإصدار كمية كبيرة من الدولارات بحجة تغطية حاجة العالم بأسره من الدولارات.
ولكن وبعد حوالي 25 عاما وجدت أمريكا أنها تقف أمام معضلة قد تشكل أزمة حقيقية لها وهذه الأزمة تمثلت بوجود كميات كبيرة من الدولارات أصدرها بنك الاحتياط الفيدرالي في أمريكا لصالحه أولا ثم لمصلحة أمريكا. وفي حال تقدمت أي من الدول التي تكدست لديها الدولارات الأمريكية لاستبدال الذهب بها بدلا من شراء صادرات أمريكا من البضائع أو الخدمات، فسوف تجد أمريكا نفسها معرضة لخسارة ما لديها من احتياطي الذهب. وللخروج من تلك الأزمة رأت أمريكا أن تتخلص من اتفاقية بريتون وودز، وقد اتخذ نيكسون في شهر آب سنة 1971 قرارا رئاسيا منفردا يقضي بوقف تحويل الدولار إلى ذهب حسب اتفاقية بريتون وودز واعتبار الذهب سلعة قابلة للتداول كأي سلعة أخرى.
ولكن هذا الفصل بين الدولار والذهب أوجد مشكلة سياسية ومالية بالنسبة لأمريكا، فحواها أن الدول في العالم لم يعد لديها أي دافع للحصول على الدولارات، وبالتالي فإن مقدرة أمريكا على ضخ كميات كبيرة من الدولارات سوف تقل، وإلا فإن كل دولار يصدره البنك الفيدرالي إن لم يجد طريقه إلى الأسواق العالمية فإنه سيخلق حالة من التضخم المالي تفوق ما يتحمله الاقتصاد الأمريكي. لذلك كان لا بد من سياسة مالية عالمية جديدة تحفظ للدولار مكانته العالمية. حيث إن أمريكا كانت ولا زالت تعتبر حاجة العالم للدولار سببا رئيسا لتمكنها من إصدار كم هائل من الدولارات لتحتفظ لنفسها بثروة مالية هائلة تستخدمها في أعمالها ونشاطاتها الاستعمارية من أجل الهيمنة على العالم.
وقد وجدت أمريكا ضالتها بحاجة العالم الماسة للطاقة وبالتالي للمصدر الرئيس للطاقة المتمثل بالنفط. فإذا ضمنت أمريكا أن تتم تجارة النفط من خلال الدولار حصريا، فسوف تحافظ على مركزية الدولار في العالم، وتستمر بإنتاج الدولارات بكميات هائلة تعادل على أقل تقدير كمية الدولارات الضرورية لشراء وتسويق النفط. وقد اتخذت أمريكا من حرب 1973 وسيلة لرفع سعر النفط أولا من خلال علاقتها مع السعودية ثم تمكنت من عقد اتفاقية في شهر آب من عام 1973 وافقت فيها السعودية على بيع النفط حصريا بالدولار ومن ثم وافقت الدول الأعضاء في أوبك عام 1975 على الانضمام لبيع النفط حصريا بالدولار. وأصبح لزاما على كل دولة تحتاج لشراء النفط أن يتوفر لديها كم كافٍ من عملة الدولار المتفردة في معاملات النفط، ما يعني أن على هذه الدول أن تقبل قروضاً بالدولارات أو تشتري الدولار من الأسواق المالية، أو بأي وسيلة أخرى. المهم أن أمريكا ضمنت استمرار تدفق الدولار، وضمن بنك الاحتياط الفيدرالي استمرار إنتاج الدولار، بغض النظر عن وجود نمو اقتصادي في داخل أمريكا أو عدمه. ومن أجل أن يتم تيسير عملية إنتاج الدولارات بدون قيد أو شرط عمد الرئيس ريغان سنة 1983 إلى تحرير الدولار من قيد آخر وهو النمو الاقتصادي.
ومنذ عام 1973 لم يحصل أي تململ أو تمرد أو اعتراض على تجارة النفط بالدولار إلا حديثا، حيث ظهرت بين بعض الدول في العالم مثل روسيا والصين توجهات وآراء وأحيانا تكتلات تدعو للابتعاد عن تجارة النفط بالدولار. صحيح أن كثيرا منها كانت أشبه بمناورات، إلا أنها لا شك توجد القلق لدى السياسة الأمريكية، ويزداد هذا القلق مع تداعيات أزمة كورونا وما يتوقع من انهيارات مالية واقتصادية خاصة في سوق النفط بعد أن انخفض الطلب على النفط بشكل كبير زاد عن 30%.
وقد تحدث بعض المحللين الاقتصاديين والسياسيين عن نظام عالمي جديد على المستوى السياسي كما على المستوى المالي. فبينما تحدث كيسنجر في مقالة نشرها في وول ستريت جورنال بتاريخ 2/4/2020 عن تغير في النظام العالمي السياسي، فقد تحدث آخرون عن تغير النظام العالمي المالي. فقد كتب جريج روسالسكي الكاتب في مجلة "مال الكوكب" التابع لمحطة أن.بي.آر الأمريكية، كتب في مقال يوم 21/4/2020 "لماذا يطبع المركزي الأمريكي تريليونات من الدولارات ويوزعها على دول العالم؟"، كتب قائلا "إن قبول الفيدرالي الأمريكي بمهمة الدائن الطبيعي للبنوك المركزية في العالم يعد بمثابة ثورة في النظام المالي العالمي". وقد تحدث المقال عن إنشاء الفيدرالي الأمريكي عن خطوط تبادل (swap lines) بينه وبين بنوك مركزية عالمية (14 بنكا) يتم بموجبها تزويد هذه البنوك بكميات كبيرة من الدولارات مقابل كمية من عملات ونقود الدولة. ويعمل الفيدرالي على ربط 170 بنكاً مركزياً آخر، حيث يعمل على نشر وتوزيع 20 تريليون دولار حول العالم.
ويبدو أن بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي يعمل على خطة بديلة عما عرف خلال الخمس وعشرين سنة الماضية بالبترودولار، أي الدولار مقابل النفط. وفي حال انهارت أسعار النفط واستقرت على سعر أقل من 10 دولار للبرميل، فإن كمية الدولارات التي يمكن أن ينتجها الفيدرالي ستنخفض بشكل كبير. وللتوضيح فإن إنتاج العالم اليومي من النفط يصل إلى 100 مليون برميل في الظروف العادية. فإذا كان سعر البرميل 100 دولار فإن الفيدرالي الأمريكي يتمكن من إصدار وطباعة 10 مليار دولار يوميا أي ما يعادل 3.65 تريليون دولار سنويا. فإذا انخفض السعر إلى 10 دولارات للبرميل فإن رصيد البنك الفيدرالي جراء بيع النفط سينخفض إلى 365 مليار دولار فقط، ما يعني أن سياسة البترودولار ستصبح عبئا على البنك الأمريكي المركزي بدلا من أن تكون عامل قوة وحيوية. وبالتالي لا بد من بديل أو العمل على إعادة أسعار النفط للارتفاع كما حصل بعد أزمة 2008 المالية.
وقد ذكر بعض المحللين أن الفيدرالي يعمل على استبدال دور البنك وصندوق النقد الدوليين في عملية الإقراض العالمي. بحيث يقوم الفيدرالي في النهاية بتزويد معظم دول العالم بالديون المرتبطة بالدولار. ما يعني أنه في حال تم التوافق مع 170 بنكا مركزيا عالمياً، فإن الفيدرالي سيكون بوسعه إصدار ما يزيد على 10 تريليون دولار سنويا وهو رقم يفوق عدة مرات ما كان يصدره مقابل النفط.
على أي حال يبدو أن أمريكا تعمل الآن ضمن المثل اليمني العريق "إذا صلحت فزوج وحمار وإلا فركبة إلى ذمار"، ويعني أن انخفاض سعر النفط إلى أقل من 10 دولارات بل وأقل من صفر كما حصل يوم الاثنين 20/4/2020 من الممكن أن يردع دولا مثل روسيا والصين عن مجرد التفكير بالعزوف عن الدولار في تجارة النفط وتكون أمريكا قد ضمنت استمرار تدفق الدولار وطباعته وإنتاجه دون أي غطاء مطلقا، وإلا فها هي تحضر لبديل أشد سوءاً من سابقه، يتلخص بدولارات مقابل ديون ورهن مقدرات الدول والشعوب ونهب ثرواتها السيادية. وتصبح الشعوب في شتى أنحاء الأرض مستعبدة ومرتهنة لعائلات البنك الفيدرالي.
والحقيقة أن العالم لن ينعتق من شرور أمريكا ورأسماليتها وربا بنوكها إلا إذا استعاد الإسلام بنظامه المالي والاقتصادي والسياسي قيادته العادلة للعالم.
بقلم: الدكتور محمد جيلاني
رأيك في الموضوع