الإعلان عن مؤتمر برلين لمناقشة الأزمة الليبية جاء نهاية شهر آب/أغسطس 2019م أثناء قمة السبع الكبار الذي عقد في بروكسل، وأشاروا في ذلك الإعلان بأن المؤتمر سوف يعقد خلال الشهر التاسع (أيلول) في السنة الماضية. غير أنه لم ينعقد واستمر التأجيل نتيجة عدم اتفاق الدول الكبرى على مسارٍ موحدٍ يجب أن تسير فيه الأزمة، وهذا يكشف عن شدة الصراع الدائر بينها على ليبيا، كلٌّ يريد الاستحواذ على أكبر نصيب من ثروتها.
وعندما ظهر لأمريكا ضعف الدور الأوروبي "المتقاتل" في ليبيا أوعزت بضوء أخضر منها إلى تركيا التي تسير في فلكها للدخول في الأزمة إلى جانب حكومة السراج (ظاهريا) المشكلة بإشراف بعثة الأمم المتحدة بناءً على اتفاقية "الصخيرات".
وتركيا لها من المبررات والمحرضات ما يكفي لهذا الدخول، وقد كانت الفرصة سانحة لها للإسراع في هذا الدخول، فالضعف السياسي الناشئ عن الخلافات الحاصلة بين الدول الأوروبية فيما بينها على النفوذ في ليبيا لما تشكله ليبيا من مصالح لهم، ساعد هذا الواقع تركيا على القفز سريعاً إلى طرابلس التي كانت قاب قوسين من السقوط في يد حفتر، وساعد وجود طرف داخلي ضاغط على السراج ليذهب إلى تركيا ويطلب المساعدة لتوفير المبرر القانوني لتركيا في دخولها كعنصر فاعل في الأزمة الليبية، فكانت مذكرات التفاهم التركية الليبية ذات الشقين الأمني والبحري، وهذا الشق البحري هو الأهم عند تركيا لأنها كانت وسيلة للخروج من الحصار اليوناني البحري المضروب حول تركيا معتمدة على تفسير مغاير لتفسير اليونان للقانون "الدولي للبحار" أي أقسام ما يسمى بالجرف القاري لأعالي البحار، فحصل التوقيع على هذه المذكرة بشقيها البحري والأمني من طرف السراج وتركيا باعتبار أن السراج يحوز على الشرعية الدولية التي تخوله هذا الإبرام والتوقيع عليه، مما دفع بالأوروبيين سريعاً لعقد مؤتمر برلين لتسوية خلافاتهم حول ليبيا والاتفاق على مسار يعيد لهم بعض السيطرة على ساحة الصراع في ليبيا، ولكن هيهات أن يعودوا بالزخم نفسه الذي كان لهم بل إن أمريكا قد أمسكت بأطراف الأزمة عبر وكلائها في المنطقة والمتعاونين معها، وما دخول روسيا إلا عامل آخر جديد ينهك الأوروبيين.
ومن الملاحظ أن ما نتج عن مؤتمر برلين هي بنود عامة تتعدد فيها التفسيرات، وهي في نظرة عامة لها في مصلحة حفتر وهي محاولة لسحب الاعتراف الدولي من حكومة السراج أو الإعلان "دولياً" عن أن حفتر يكتسب شرعية عسكرية ولا بد من التعامل معه على هذا الأساس، وفرنسا هي من يقود هذا المنحى في الأزمة وكيفية التعامل معه، وقد أفصح وزير خارجية فرنسا أخيراً بأن "السراج له الشرعية السياسية وحفتر له شرعية عسكرية". رغم فساد هذا المنطق ولكنه يحاول أن يقره كمبدأ في التعامل مع حفتر، ولعله محاولة من فرنسا لإرضاء أمريكا وهذا قد يزيد الشرخ بين الأوروبيين.
علما بأن أغلب الأوراق التي قدمت في برلين كانت في صالح حفتر، من مثل ورقة فرنسا وورقة مصر وورقة روسيا، فهي تركز على ضرورة حل المليشيات، وحفتر يقاتل "بالجيش". هذه ناحية، والناحية الثانية أن هذه الأوراق كانت تركز على ضرورة وقف إطلاق النار بين المتقاتلين حيث هم، ولم تشر إلى ضرورة انسحاب مسلحي حفتر "المتعددي الجنسيات" من حول طرابلس بل أقروا بقاءها حيث هي.
من هنا يبرز السؤال الكبير: هل مؤتمر برلين أسس لحل المسألة الليبية على أي وجه كان؟ أم هو محاولة أوروبية لحل صراعاتهم على السيطرة على الغنائم في ليبيا ولجم الدخول الروسي والتركي إلى الساحة الليبية؟ وبالمتابعة لمجريات المؤتمر ووقائعه يتضح أنه في أحد أهدافه يؤسس للالتفاف على عملية الدخول التركي والروسي الذي أصبح معلنا من خلال لقاء موسكو بحضور أردوغان والسراج وبوتين وجعل هذا الدخول التركي على الخصوص لا فاعلية له بل جعله عبئا على الدولة التركية. ولذلك يحق لنا أن نقول بأن هذا المؤتمر ليس سوى حلقة من حلقات التآمر على البلاد ووقفة أوروبية لتنظيم حالة الصراع على ليبيا، وليس في نتائجه أي بادرة للحل في ليبيا.
ونحن نشهد اليوم المتحكمين في العالم يعيشون حالة من النفاق والتناقض المريعة، فهم عبر مجلس الأمن الذي يتحكمون فيه وفي أعماله، وقوانينهم التي أطلقوا عليها مسمى "القانون الدولي" لا يجيزون تهديد الكيان السياسي الذي اكتسب شرعية من قوانينهم الدولية هذه، وفي الوقت نفسه تدعم بعض قوى هذا العالم عصابات لا تعترف ولا تراعي هذه القوانين الدولية! والتي لم تنشأ عنها بل وتهدد قيم المجتمعات وتهدمها، وتعمل بدعم من هذه الدول على هدم ما اعتبرته هذه الدول "سلطة شرعية وحيدة" في البلاد، وما قامت به عصابات حفتر من إقفال للحقول النفطية والموانئ النفطية إلا مثال على ما أشرنا إليه من هذا التناقض. فحفتر ليست هذه هي المرة الأولى التي يقوم فيها بإقفال الحقول والموانئ النفطية، فقد أقدم في سنة 2018 على ذلك، وفي ساعات اتصل به ترامب ونهاه عن اللعب بالنفط فانسحب من ساعته وسلمه إلى مؤسسة النفط الليبية ولم يتأخر.
أما هذه المرة فالإقفال مستمر ولم تحرك أمريكا ساكناً رغم بعض البيانات الشاجبة وهي على قاعدة "ارجع ولا ترجع"! مع الإيعاز للإمارات والسعودية بتعويض النقص في سوق النفط العالمي، ولذلك لا أثر لهذا الإقفال في العالم، ويبقى الأثر المحلي فقط مما يعمل على تقويض "سلطة السراج في طرابلس"، ويمكّن هذه العصابات من ضرب مصالح الناس في ليبيا التي يعيش أكثر من 30% من الشعب على راتب الوظائف العامة في القطاع العام ولا يوجد دخل للخزينة إلا من قطاع النفط.
فتمكين عصابات حفتر من إيقاع الضرر بمصالح الناس وأرزاقهم وهو عمل إجرامي تحميه الدول الكبرى وعدم السماح لجموع الناس بإيجاد نظام يعبر عن بعض آمال الناس وطموحاتهم في ليبيا، هو سياسة إجرامية ينفذها حفتر وعصاباته بتسهيل وحماية دولية مما يخالف حتى قوانينهم الدولية، فهذه الدول الاستعمارية الجشعة في سبيل مصالحها تهدم كل القيم الإنسانية ولا تبالي.
فالويل لنا ولشعوبنا إذا لم نسترجع قضايانا المصيرية من أيدي هذه الدول العدوة، ونحل مشاكلنا مهما كانت مستعصية في داخل بلادنا بيننا، فاللجوء للأجنبي هو الهلاك المريع وهو الخيانة الكبرى لله ولرسوله وللأمة بأكملها.
بقلم: الأستاذ أحمد المهذب
رأيك في الموضوع