عُقد مؤتمر طهران تحت مسمى القمة الثلاثية في 7 أيلول/سبتمبر 2018، وركّز فيها المجرمون الثلاثة على مستجدات الأوضاع في "مناطق خفض التصعيد" بمحافظة إدلب، مبرمين في نهاية المؤتمر بنودا كان من أهمها؛ "عزمهم مواصلة التعاون من أجل القضاء في نهاية المطاف على تنظيم (داعش) الإرهابي وجبهة النصرة وجميع الأفراد والجماعات والمشروعات والهيئات الأخرى المرتبطة بالقاعدة"، كما أقروا "بأنه لا يمكن أن يكون هناك حل عسكري للصراع السوري، وأنه لا يمكن أن ينتهي إلا من خلال عملية سياسية متفاوض عليها. وأكدوا من جديد عزمهم على مواصلة التعاون النشط من أجل دفع العملية السياسية بالتوافق مع قرارات مؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي، وقرار مجلس الأمن رقم 2254".
وخلص المؤتمر عن تصعيد من الدب الروسي بشكل غير مسبوق ومركز لم يكن إلا مساعدة لتركيا لأن تحرك رجالاتها كي تأخذ الشرعية بأن تصبح صاحب الصلاحية المطلقة بإنهاء الثورة السورية، وكان لها ذلك بأن خرجت مظاهرات رافعة الأعلام التركية طالبت تركيا بالتدخل كضامن وصديق للثورة؛ وبذلك تحققت مقاصد مؤتمر طهران. فبعد عشرة أيام، التقى أردوغان وبوتين في سوتشي، وتوصلا إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وإنشاء منطقة منزوعة السلاح في إدلب بين قوات النظام وفصائل المعارضة المعتدلة.
تعود جذور كل ما سبق لمؤتمرات عُقدت ومهدت لذلك بدأت في شهر أيار عام 2017 حيث اتفق المجتمعون في حينها على اتفاق يتضمن خفض التصعيد في إدلب وعملية عسكرية مشتركة تستهدف كل من يحمل الفكر المتطرف من وجهة نظر المجتمعين، بالإضافة لإقامة منطقة آمنة يشرف عليها الجيش التركي مع فصائل المعارضة المدعومة منه، بالإضافة لملف ثالث متعلق بتشكيل لجنة صياغة الدستور. تلا ذلك المؤتمر مؤتمران، سارا على نفس ما قد سبق من بنود، وعُقدا في أنقرة وطهران على التوالي في نيسان وأيلول 2018.
يمكن القول إن سوتشي كان نتيجة حتمية لما تم البدء به عام 2017 وأن بنوده كان تنفيذها بناء على مقررات طهران 2018 القاضي باستخدام القوى الغاشمة كي يتم تحصيل المطالب التي تم الاتفاق عليها. وليس اجتماع كل من وزيري دفاع تركيا وروسيا خلوصي أكار وسيرغي شويغو، في أنقرة بعد عقد سوتشي بأيام إلا لرسم مخطط التنفيذ المتفق عليه بين الضامنين وتحريك البيادق بحسب المطلوب.
لم يكن ليحصل ذلك كله في ظل توزع مناطق السيطرة على المحرر، فكان لا بد من قوى واحدة تبسط سيطرتها على كافة المناطق وتبتلع ما هو موجود من فصائل، ليس من باب منع تشتت المحرر ودمجه تحت قيادة واحدة ومن باب رص الصفوف - وهذا ما عمل على الترويج له المطبلون والمرقعون وزبانية الفصائل والقادة -، بل لتكون أوامر التنفيذ محددة وموجهة وكي لا يحصل أي تشويش تجاه ما تم الاتفاق عليه؛ فابتلعت هيئة تحرير الشام كل الفصائل الموجودة في المناطق المتفق أن تكون ضمن دائرة مناطق خفض التصعيد والمنزوعة السلاح التي يجب أن تُشرف عليها تركيا هي وفصائلها المدعومة منها، من مناطق ريف حماة الشمالي وإدلب الجنوبي والشرقي وكذلك ريف حلب الغربي.
إن ما يحدث الساعة في آخر معقل من معاقل ثورة الشام المباركة كانت بدايته منذ لحظة إعلانها، حيث سرعان ما بدأ الغرب أعماله الخبيثة لإنهائها؛ نعم هو همّ بأن ينهيها منذ بدايتها ولكنه لم يكن ليبدأ في ذلك قبل توفر الأدوات المناسبة لذلك، فكانت البداية الحقيقة عند دخوله بشكل داعم وممول ومساعد، ووقوف الناس موقف المتفرج لما يحصل، ومن حينه بدأ العد التنازلي فكان سقوط المناطق وإرجاعها لحضن أسد شيئاً طبيعياً نتيجة انقياد المرتبطين بحبالهم من قادة وفصائل وشخصيات. وهذا ما تولى كبره دي ميستورا من خلال خطته المسماة مناطق خفض التصعيد. واليوم يعتبر المحرر تحت المجهر بعد مؤتمر طهران.
فليس ما يحصل من تضييق على الناس وتهجير ممنهج لهم من الفصائل بخيانتها والحكومات بانفصالها عن الواقع وسيرها على خطا مثيلاتها في أنظمة الحكم الجبري، بالإضافة لتوهان البوصلة عند كثير من المفاصل على الأرض وغيره، إلا بعد تخطيط كبّار دبر بليل في دور ندوة حقيرة، في مشهد يشابه ما حصل بالأمس القريب في درعا، فلسان حال الناس يقول حينها إن يوم الحشر قد تم، وإن الحساب قد اقترب، وفعلياً قولهم حق ونظرتهم كذلك ولكن ليس حساب آخرة بل زجرة دنيا علّنا نعود إلى الله، فليس ما حصل حينها إلا نتيجة غفلة عن سلطانٍ سرقته الفصائل وغياب قاعدة المحاسبة وغشاوة عن ثوابت تسير عليها الثورة، يضاف لذلك مصادرة القرار السياسي للثورة من الخارج.
ما يحدث الساعة في المحرر يشابه ما حصل فيما مضى في سياسة دفع الناس لطلب الخلاص من هذا الواقع المرير الذي صُنع لهم.
ولكن رغم كل ذلك فإن الحل في متناول اليد، وليس الحال اليوم بأفظع مما كان عليه عند تسلط نظام أسد ما قبل آذار لعام 2011، ورغم ذلك خرج الناس وكسروا قيود عبوديتهم وتسلط النظام الجبري عليهم...
تُعتبر القاعدة الشعبية بيضة القبان في كل الأعمال، وليس السحق الممنهج لها إلا لإدراك المتآمرين ذلك، وعليه فقد وجب على هذه الحاضنة أن تعود من جديد وأن تُجدد العهد مرة أخرى فتتحرك كما في بداية الثورة وتُسقط المنظومة الفصائلية كما أسقطت المؤسسة العسكرية، وتُسقط قيادة هذه المنظومة كما أسقطت قيادة المؤسسة العسكرية، وأن تتسلح فيما يحصنها ويمنع وقوعها في المطبات السابقة نفسها، فلا يُسمح بارتباط لا داخلي ولا خارجي مهما قل، ولا قرار سياسي للثورة سوى القرار الداخلي النابع من عقيدة الناس ومعتقداتهم، ولا فصائلية مقيتة ولا عصمة لأحد إلا ما عصمته الثورة فقط، فلا نجاة إلا بتخطي أخطاء الماضي ولا فلاح إلا بتأسيس الثورة بثوابت لها مرضية لله ولرسوله ومحققة رضوانه.
فعلى المحرر الساعة أن يسير بعيداً على الفصائل وقرارها المصادَر، وأن يخلع هذه العباءة التي أنهكت كتف الثورة بالتبعية.
إن نصر الله بيد الله سبحانه والذي لن يكون إلا بناء على رضوانه سبحانه، فلا تبتئسوا من مكر الظالمين وإن علا، ﴿فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾.
بقلم: الأستاذ عبدو الدّلي أبو المنذر
رأيك في الموضوع