بعد أن استعرضنا دور مصر في الأردن زمن جمال عبد الناصر وكيف كان يشكل خطرا حقيقيا على النظام في الأردن، وكانت إذاعة صوت العرب واضحة وناطقة بالدور المصري آنذاك، فضلا عن المؤامرات والاتهامات بالرجعية والعمالة للاستعمار وحماية كيان يهود، والتبجح بالمقاومة للاستعمار والنفوذ الاستعماري وهو في حقيقته ضد النفوذ القديم الإنجليزي الفرنسي ومنسجم كل الانسجام مع خطة أمريكا بطرده والحلول مكانه، وكان الدور المصري يشكل تهديدا لكل عملاء الإنجليز وخاصة قاعدته في الأردن التي كانت تعتبر المطبخ السياسي لها، والتي احتلت دور الزعامة والريادة في المنطقة آنذاك.
أما مقاومة الإنجليز للدور الأمريكي (مصر) في كل المنطقة عامة وفي الأردن خاصة، فبعد مسرحية الضباط الأحرار معن أبو نوار ورفاقه ومحاولة كشف مخططات جمال عبد الناصر تجاه الأردن وعدم تعامل مصر مع الضباط الأحرار في الأردن لإدراك جمال عبد الناصر أنها خدعة إنجليزية تهدف إلى أمرين اثنين هما:
أولا: محاولة كشف خطة ناصر تجاه الأردن لمعرفتها من خلال التواصل مع مجموعة ضباط تحت ذريعة أنهم مع الدور المصري لعل ناصر يثق بهم ويطلعهم على الخطة والمطلوب والخطوات فتكشف بريطانيا المخطط الأمريكي من خلال مسرحية الضباط الأحرار.
وثانيا: معرفة أدوات ناصر في تنفيذ الخطة خاصة في الجيش الأردني وهل له أدوات أو أتباع أو من يؤيده في الخطة أو من عندهم قابلية الاستمالة له.
ولكن أمريكا لم تنطل عليها الخديعة الإنجليزية فلم تتعامل مع هؤلاء الضباط وتركوا في الفندق لفترة حتى عادوا واستلم معن أبو نوار إدارة المخابرات ووظائف عليا بالجيش فيما بعد!
(في معرض حديثه عن حركة الضباط الأحرار، يقول أبو نوار إن عبد الله التل "كان متعجلاً وغير حذر"، وأنه وسّع اتصالاته مما أدى إلى ملاحقته، فهرب فجأة إلى القاهرة.
كانت تلك الفترة، قد شهدت انقلاباً عسكرياً في سوريا بقيادة حسني الزعيم 1949، ثم انقلب عليه سامي الحناوي، وقام أديب الشيشكلي بانقلاب آخر. وفي مصر وقعت ثورة 23 تموز/يوليو 1952 وكان لها امتدادات وتأثيرات في الوطن العربي والعالم الثالث بعامة، فاقتبس الشبان الضباط في الأردن فكرة وتسمية الضباط الأحرار في مصر، مثلما حدث في دول أخرى مثل: ليبيا والجزائر وموريتانيا واليمن.
كان الأردن قد (فُجع) في 20 تموز/يوليو 1951 باغتيال الملك عبد الله بن الحسين في القدس. ويرجّح أبو نوار أن لبريطانيا دوراً في عملية الاغتيال، ويدلل على ذلك بأن موسى الحسيني المتهم بالاغتيال، كان على علاقة واسعة وقوية مع غلوب وكثير من الضباط والقادة العسكريين البريطانيين في الأردن.)
إلا أن ضعف الدور المصري بوفاة جمال عبد الناصر حيث انتقل التفكير الأمريكي للحفاظ على مصر وعدم عودتها للإنجليز فلجأت للدفاع وليس للهجوم، ومن أجل هذا صار التحول في الخطط الأمريكية كلها، لا بل أوقفت أمريكا خططها في المنطقة ومنها مشروع روجرز في حل القضية الفلسطينية بعد ضعف الدور المصري ووفاة جمال عبد الناصر. ومن ضعف أمريكا لقلة عملائها بعد الخوف على مصر فقد أخذت تفكر بالوجود العسكري حيث فكرت في إدخال الجيش الأمريكي إلى جانب الجيش السوفيتي إلى المنطقة ليقوما بحفظ مصر وبحفظ وجودها في المنطقة - لذا فإن ما يحدث من استخدام أمريكا لروسيا في الشام اليوم ليس غريبا فقد استخدمت الاتحاد السوفييتي سابقا لحماية عمليها عبد الناصر في مصر والآن لحماية عميلها بشار جاءت بروسيا. ذلك أن مصر بعد وفاة عبد الناصر قد وجدت فيها ثلاثة أمور ضخمة تهدد الوجود الأمريكي والوجود الروسي، وتضمن رجوع مصر للإنجليز وبالتالي طرد أمريكا من المنطقة كلها.
أولا: قام فيها حكم ضعيف لا يستطيع حفظ نفسه فضلا عن حفظ الوجود الروسي المطلوب أمريكيا لحفظ عميل أمريكا فلا تستطيع الاعتماد عليه في مصر وحدها فكيف بالاعتماد عليه لتظل مصر قائدة للمنطقة كلها وزعيمة لها ومؤثرة بها وصاحبة دور مؤثر؟
وثانيا: وجدت في مصر تحركات للجيش والشعب تنادي بالحرب وتنادي بطرد الروس، وتنادي بالتحرر الكامل وصارت هذه التحركات في وضع علني تلمس في الجبهة وتلمس في مجلس الأمة وتلمس في الاتحاد الاشتراكي، بل تلمس في الشارع والمدرسة والحانوت، وهذا يعني أن هذه التحركات قد تتحول إلى ثورة أو انقلاب لا يبقي ولا يذر.
ثالثا:كانت الاتصالات بين الإنجليز وبين مصر بدأت بزيارة دوجلاس هيوم وزير خارجية إنجلترا لمصر بحجة حضور جنازة عبد الناصر وتتابعت بزيارة عدد من الإنجليز بواسطة ليبيا ثم أصبحت رسمية بزيارة محمد حسنين هيكل وبالمذكرات الرسمية والطلب علنا من مصر أن تقوي العلاقات بينها وبين إنجلترا وبذلك صارت إنجلترا لا تعتمد على قواها الموجودة في مصر في الجيش والسياسيين ورجال الأعمال بل تجد كذلك في الحكم الحاضر وفي عملاء أمريكا من يرحب بها ويخطب ودها ويحاول استرضاءها، فصار رجوع مصر لإنجلترا مسألة وقت، لذلك لم يبق أمام أمريكا سوى شيء واحد تفعله، وهو القوة العسكرية التي تسيطر على مصر وحول مصر من أجل منعها من أن ترجع للإنجليز ومن أجل الحفاظ على الوجود الأمريكي في المنطقة كلها، ومن أجل ذلك كان هذا التحول في حل أزمة الشرق الأوسط.
وكانت الأردن في أوج هذه التحركات والعمل والترتيب والقيادة وانتقلت إلى الهجوم القوي الكاسح بلا رد مصر بل خرجت مؤقتا كونها أداة للصراع لتستخدم أمريكا ورقة غيرها.
بقلم: الأستاذ المعتصم بالله (أبو دجانة)
رأيك في الموضوع