لقد تميزت الأوضاع في تونس قبل إجراء انتخابات 2019 بفشل كل الأحزاب السياسية وكل أجهزة الدولة في تقديم حلول للملفات الحيوية التى ضاق بها الشعب ذرعا وكانت سببا ظاهرا للثورة على نظام بن علي سنة 2011. فعلى الصعيد الاقتصادي فقد ارتفعت نسبة البطالة في تونس سنة 2019 إلى 15.4% بعد أن كانت 12.8% سنة 2010 وصعدت نسبة الفقر من 14.8% سنة 2010 إلى 15.2% سنة 2019. وقد أرهق الغلاء غالبية الشعب حتى أصبح الحديث عن قفة التونسي سلاحا عند المدافعين على نظام بن علي. وقد زاد تدهور العملة 1 يورو = 3.2 دينار بعد أن كان 1 يورو = 1.8 دينارا تونسيا سنة 2011 وكل المؤشرات الاقتصادية تهوي إلى حالة تهدد بالإفلاس.
أما على الصعيد السياسي فقد فشلت سياسة التوافق التي تم اختيارها كحل للصراع على الحكم بين الأحزاب المتناقضة والصراع بين الحكم وبين أهم منظمات المجتمع المدني. فقد تزلزلت أحزاب الحكم، إذ تشظى حزب نداء تونس وانهارت شعبية حركة النهضة ولم ينجح الاتحاد العام التونسي للشغل في تحسين أوضاع منظوريه بل كان عموما أداة عملية لإرهاق العديد من المؤسسات العمومية والخاصة. وفشلت الحكومات المتعاقبة سواء التابعة للحزب الفائز في الانتخابات أو حكومة التكنوقراط أو حكومة التوافق على السير بالبلاد نحو الأعلى، بل ساهمت جميعها في انهيار الأوضاع. أما البرلمان فقد كان ساحة عنتريات كلامية وأحيانا جسدية ولم يحاسب الحكومات بما يقوّم برامجها ولم يشرع قوانين لحل الأزمات. بل أخطر ما يصدر عنه الموافقة على القروض والموافقة على تجديد العقود للّوبيات الداخلية أو الشركات الاستعمارية. كل هذا هو الظاهر من صورة الانهيار الذي صنعته الطبقة السياسية الرسمية، لكن في خلفية المشهد لم تغب أيادي الاستعمار الغربي عن تحريك كل القطع بما يضمن مصالحها ودوام تحكمها في مفاصل شؤوننا. مجملا هذه هي الأوضاع التي حفت بالانتخابات التشريعية 2019 وهذه هي جذور مجرياتها.
أما نتائجها فنلخصها في النقاط التالية:
1- ظهور تيار خارج عن سياق الأحزاب التقليدية ينعت بالثورية تقدم في قوائم مستقلة أو ائتلافية يغلب عليه المطالبة بتحقيق أهداف الثورة ورفع بعض الشعارات الإسلامية، يقدم نفسه كمناقض للنظام القديم، والواضح أنه حرك مياه السلبية الراكدة التي غرق فيها الشعب عموما تجاه العملية السياسية وخاصة الانتخابات بخلق ثنائية قطبية نظام قديم/نظام جديد لجلب الناخبين العازفين.
2- تركزت الحملات الانتخابية للأحزاب وغيرها على وعود وشعارات تعوّدها الشعب في مثل هذه المناسبات جدّ فيها الحديث عن مناهضة الاستعمار الغربي ومنع نهب الثروة من الشركات الرأسمالية الكبرى، لكن الشق "الثوري" الذي تبنى هذه الشعارات لم يقدم برنامجا سياسيا لتطبيقها! وقد كانت الحملة باهتة لطغيان الانتخابات الرئاسية المبكرة على الاهتمام ولبرودة تعامل الشعب مع هذه الحملة تعبيرا منه على عدم الانتظار لحلول حقيقية من هذه الانتخابات.
3- جرت هذه الانتخابات في أجواء سلمية من الشعب الذي يراقب العملية دون حماس ولا تشنج وسمح لمكوناته باختيارهم فمن شاء أدلى بصوته ومن شاء امتنع، في سلوك سلمي تميز به الشعب التونسي.
4- أنفق الكثير على إجراء هذه الانتخابات وضمان حسن سيرها وإغراء الشعب حتى يصوت فيها لمن يشاء ووقع الإشراف عليها ومراقبتها من الغرب عن كثب.
أما من ناحية النتائج للانتخابات البرلمانية فنسبة المشاركة كانت في حدود الأربعين في المائة من المسجلين ما يعني أنها حقيقة في حدود الثلاثين بالمائة إذا قسم عدد المقترعين على عدد التونسيين الذين لهم الحق في الاقتراع وهذا يعني أن ثلثي الشعب تقريبا عزف عن الانتخابات.
أما عدد المقاعد التي تحصلت عليها الأحزاب، فحركة النهضة في المرتبة الأولى، يليها حزب قلب تونس الديمقراطي، وبعده ائتلاف الكرامة، فالحزب الدستوري الحر، فحركة الشعب، وبعدها حزب تحيا تونس، وباقي المقاعد مقسمة على باقي القوائم الأخرى.
وقراءة موضوعية في هذه المجريات والنتائج تظهر:
1- أن الشعب التونسي في كليته لا يرى في هذه الانتخابات مخرجا له من سوء الأوضاع التي تسربله وأصابع اتهامه تتجه نحو الفئة المتصارعة على السلطة فلا يرى في مجموعها اهتماما لمشاغله أو قدرة على إيجاد الحلول العملية لإنهاضه وتحريره من قيود الاستعمار والتخلف. بل على العكس تماما فقد بانت له منها خيانة والتفاف على مطالب ثورته وخدمة وعمالة لعدوه المستعمر. ولولا مسرحية إدماج "الثوريين" للتسويق إلى إمكانية التغيير لكانت هذه الحقيقة أكثر وضوحا.
2- أن البناء الحزبي بصفة عامة مصطنع وغير ثابت، فحركة النهضة التي طالما ادعت العراقة والثبات أضاعت ثلثي ناخبيها بين انتخابات 2011 (مليون ونصف) وانتخابات 2019 (خمس مائة وأربعة وثمانون ألفا)، بينما لم يفز نداء تونس إلا بثلاثة مقاعد بعد أن أضاع أكثر منتسبيه وأكثر منتخبيه. هذه الأحزاب لا ترتقي إلى طموحات هذا الشعب الثائر الذي يبحث عن قيادة واعية قادرة وثابتة ومتحررة من كل عمالة.
3- أن الإسلام هو مركز الجاذبية لهذا الشعب المسلم، فقد توجه أغلب من انتخب سنة 2011 للنهضة منورة منها الإسلام الذي ادعته كحركة إسلامية ثم انفض من حولها لما نبذته في سياستها وراء ظهرها، فها هو يبحث بين ركام المدعين للصلاح عن رائحة القرب من شرع الله وعدم معاداته، أما من عُرف عنهم العداء الصريح للمشروع الإسلامي فقد عاقبهم بوضوح حيث لم تحصل الجبهة الشعبية ذات التوجه اليساري إلا على مقعد يتيم.
4- أن الأحزاب تبث في خطابها شعارات معاداة الاستعمار ورفض نهب الثروة من شركاته الكبرى وتدخل صندوق النقد الدولي في الشؤون الاقتصادية، استفادت من هذه الشعارات مع أنها لم تبين كيفية التحرر من المستعمر أو كيفية استعادة الثروات المنهوبة أو كيفية التصدي لهيمنة صندوق النقد الدولي على تونس، ولكنها اكتفت بمجرد تبنيها لما رأته من انجذاب الشعب لها وتجاوب معها لمّا أثارها حزب التحرير وناقش الناس فيها.
5- أن الحكومة التي ستشكَّل إثر هذه النتائج سواء كونتها النهضة من أعضائها أو كونتها من خلال التوافق مع أحزاب أخرى أو كانت حكومة تكنوقراط، ستكون في البرلمان حكومة ضعيفة ليس لها قرار، يسهل إسقاطها ويصعب تمرير قوانينها التي تريد في سياستها.
6- أن الاستعمار الغربي سيجد سهولة أكبر في التلاعب بسلطان البلاد وربما يسوقها قسرا نحو مزيد من الانهيار حتى يسهل عليه التحكم في هذا الشعب الثائر ومواصلة السيطرة على مقدراته ومنعه من النهضة الصحيحة في إطار نظام الإسلام العظيم وإطار عمق الأمة الإسلامية جمعاء.
7- أن البلاد مهيأة لاستقبال سلطان جديد يؤيده غالبية العازفين عن هذه الانتخابات ولن يقف في وجهه غالبية من ذهبوا إليها طامعين في التغيير إلى الأحسن. أما العملاء والخونة الذين يمدون للكفار في بلادنا مدا، فسيعلمون حينها أن الأمر جدّ وليس بمسرحية وأن الخلافة حكم وليست إدارة للاستعمار وأن هذه الأمة تنام وتصحو ولكنها لا تموت...
بقلم: الأستاذ سعيد خشارم
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية تونس
رأيك في الموضوع