كشفت جريدة لوبنيون الفرنسية عن اعتراف الرئيس الفرنسي ماكرون لأول مرة خلال قمة الدول السبع الكبار بـ"الاتفاق على وقف التقاتل مع بعضنا البعض بالوكالة في أراضي ليبيا".
ولا يفوتنا أن نذكر أن ماكرون قد حاول السيطرة على القضية الليبية في قمة الوساطة التي عقدها مع حفتر والسراج في باريس حزيران/يونيو 2017، واعتبرت جريدة لوبنيون الفرنسية أن ذلك "كان بعيدا جدا عن الواقع". فها هي قد توقفت عملية التسوية مع شن حفتر هجومه على طرابلس، وفشله فشلا ذريعا في احتلال طرابلس، وقد أظهرت الأحداث بوضوح تدخل أطراف دولية وإقليمية عدة، اضطرت للاعتراف بتدخلها بالمال والسلاح وحتى الجنود في هذا الصراع، وعلى رأسهم فرنسا. فقد جاء في تقرير فرنسي تأكيده "إن السياسة الفرنسية تمليها تحالفات نسجتها مع دول إقليمية عربية ومع تشاد والنيجر الدولتين اللتين ترتبطان بالسياسة الفرنسية وهما تريدان تأمين حدودهما الشمالية مع ليبيا.
وهذا أيضا ما صرح به السيسي علنا بأنه "يدعم الجيش الليبي بقيادة حفتر"، وما تم الكشف عنه من طرف الأمن والحكومة التونسية بعد اعتقال مجموعة من رجال المخابرات الفرنسية وهم خارجون من ليبيا يحملون جميع وسائل العمل العسكري والتجسس معهم، وبالتحقيق معهم اعترفوا أنهم كانوا في مهمة قتالية في ليبيا إلى جانب حفتر، واتضح أنهم كانوا يديرون غرفة عمليات حفتر في مدينة غريان للسيطرة على طرابلس، وبعد العثور على كمية من الصواريخ الأمريكية المتطورة في غريان، واعتراف وزيرة الدفاع الفرنسية بأنهم هم من جلبها إلى غريان، والتي اشتريت من أمريكا عام 2010... كل هذا يظهر تورط فرنسا علنا بدعم حفتر ومده بكل الأسلحة وحتى قيادة غرفة عملياته، ثم جاء إعلان تركيا بأنها ستدعم حكومة "الوفاق"، حكومة الصخيرات في طرابلس، وأنها لن تسمح بتحويل ليبيا إلى الحالة السورية، وهذا يظهر تضارب المشاريع الغربية السياسية في ليبيا والتي كلها ضد مصلحة ليبيا وأهلها. بل هي ربط لليبيا بعامة الأعداء وإلحاقها بنفوذهم بعد ثورة اقتلعت رأس الكفر ورأس العمالة في ليبيا، وما كان هذا ليحصل لولا طغمة من الفاسدين من أبنائنا ارتضوا العمالة، والسير في ركاب الأعداء مقابل قليل من الفتات الذي يرميه لهم العدو!
أما وقد يئست الدول الغربية من حسم الصراع لإحداها وأصبح ما تنفقه على هذا الصراع يغير في ميزان الربح والخسارة وأصبح الصراع فيما بينها على النفوذ في ليبيا مكلفا بها، أصبح بعضهم يميل إلى الرضا بقسمة الغنيمة كل حسب حجمه وهذا ما عبر عنه الرئيس الفرنسي بـ"...الاتفاق على وقف التقاتل مع بعضنا البعض بالوكالة في أراضي ليبيا..."، أي الاتفاق على اقتسام النفوذ في بلادنا، وهذا ما سيظهر في المؤتمر المزمع انعقاده في ألمانيا-برلين نهاية العام، وهناك جملة من الوقائع والتصريحات تصب في هذا التوجه، غير أن طبيعة الاستعمار التي عليها هذه الدول من الصعب أن تسمح بإيقاف الصراع فيما بينها.
وأما جملة الوقائع فهي:
1- تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون السابق ذكره.
2- تصريح المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة عن حفتر بأنه مستعد لسحب قواته من المناطق الغربية مقابل مناصب طلبها تمنح له، منها وزارة الدفاع ورئاسة الأركان.
3- تصريحات السفير الأمريكي الجديد إلى ليبيا ريتشارد نورلاند بأنه يعمل على حل الأزمة الليبية بالتنسيق مع بعثة الأمم المتحدة.
4- ما أعلن عنه المستشار السياسي السابق لخليفة حفتر، محمد مسعود بويصير وهو قادم من أمريكا، بلده الذي يحمل جنسيته ويتمتع بعضوية الحزب الجمهوري فيها، من "أن أمريكا لا مشروع لها في ليبيا وليست في حاجة إلى ما في ليبيا من ثروات اقتصادية" في محاولة منه لتبرئة أمريكا من أفعال حفتر الإجرامية وإظهارها كذبا بأنها على الحياد وأنها لا تتحمل التدمير والقتل الذي أحدثه في البلاد.
5- البيان الذي صدر عن قمة الدول السبع الكبرى من العمل على عقد مؤتمر دولي خاص بليبيا في برلين بألمانيا نهاية العام.
6- بيان مجلس الأمن الذي طالب فيه الدول في العالم عدم التعامل مع المؤسسات الموازية التي شكلها حفتر في المناطق الشرقية، كحكومة عبد الله الثني في البيضة وفرع البنك المركزي الذي جعله مستقلا عن المركز الرئيسي في طرابلس والذي أعطى لنفسه حق طباعة العملة وقد قام بذلك. ومؤسسة نفط موازية للمؤسسة الرئيسية في طرابلس، طالبا من مجلس الأمن عدم التعامل مع هذه.
كل هذه الوقائع والتصريحات تدل على أن الأزمة في جانبها الدولي قد نقلت إلى وضع جديد، وهذا يقود إلى التخلي عن بعض الأدوات المحلية التي لم يعد لها لزوم عند الدول الكبرى والتي عجزت عن تحقيق ما كلفها به أسيادها.
ومن هنا قد يحصل التخلي عن حفتر كليا أو جزئيا بعد تأمين البدائل عند أمريكا وقد حصل ويجري تطويع هذه البدائل من مثل شخصية محمد مسعود بويصير الذي كان مستشارا سياسيا لحفتر، ثم انشق عنه، ومجموعة من الشخصيات يجري تجميعها الآن تحت مسمى "الهيئة البرقاوية" من أمثال "الكزة" ومحمد حجازي الناطق الإعلامي لحفتر في فترة سابقة، والعميد العبيدي الذي يهيأ الآن ليكون رأس مؤسسة برقة العسكرية.
ولا نعلم هل هذا مقدمة لدفع هؤلاء لتبني فكرة "الفيدرالية" و"التقسيم" لأن من بينهم فدراليون ينادون بالفدرالية أم لا؟ وما يحصل الآن من مستجدات على الوضع المصري وتحرك الثورة من جديد بالتأكيد هو ليس في مصلحة حفتر.
ونحن في سياق الأحداث هذه لا بد لنا من تسجيل المستجدات التالية:
1- الأحداث الأخيرة بعد 4/4 من هذا العام أدت إلى توحد كتائب الثوار في مواجهة حفتر وتكونت غرفة عمليات واحدة من أغلب الكتائب الكبيرة تصدر الأوامر وسميت جميعها بقوات "فبراير" وهذا ما اضطرهم - مؤقتا - للانضواء تحت حكومة السراج ومجلسه الرئاسي للحصول على المال والسلاح والذخيرة اللازمة للمعركة.
2- وفي الوقت نفسه اضطر هذا الواقع الجديد على السراج، اضطر حكومته إلى إعلان تبنيها للثوار على أساس أنهم جيش، فصار يطلق عليهم الجيش الليبي التابع لحكومة الوفاق، وأصبحت جميع إمكانيات المواجهة مع حفتر تمر عبر حكومة السراج والمجلس الرئاسي المشكل حسب وثيقة الصخيرات والذي جعل من السراج هو القائد الأعلى للجيش.
خلاصة الأمر، لعله لم يعد حفتر هو خيار أمريكا لحكم ليبيا، وقد أنجز جزءا من مهمته التي يتقنها جيدا وهي تدمير البلاد في جزء كبير من بنيتها التحتية وعمّق الصراع القبلي في البلاد، وغير ذلك لم يحقق شيئا خلال خمس سنوات، فهل ما تم ذكره يقود إلى حلول ثابتة تنهي الأزمة؟ ويحضر لدي الآن مقولة لكيسنجر وزير خارجية أمريكا الأسبق من أنه "ليس من مصلحة أمريكا حل قضايا العالم"، ولذلك هو مجرد نقل للقضية من حال من الصراع الدموي العسكري إلى الصراع السياسي والتآمر في أروقة المؤتمرات الدولية، وهذا يجري في أغلب القضايا الدولية الموجودة في بلاد المسلمين.
وسيبقى الحال على ما هو عليه ما لم نلتزم أمر الله ونحتكم إلى شرعه.
بقلم: الأستاذ أحمد المهذب
رأيك في الموضوع