الملاحظ هذه الأيام في الجزائر أن الواجهة المدنية للنظام الجزائري اختفت وتوارت عن المشهد تماماً، وأن المؤسسة العسكرية الممسكة بالبلد ألقت بكل ثقلها في الساحة السياسية من خلال خطابات رئيس الأركان المتتالية من الثكنات من مختلف النواحي العسكرية بغرض فرض خارطةِ طريق السلطة الفعلية المتمثلة أولاً في إجراء انتخابات رئاسية يوم 12/12/2019م، مستخدمةً أساليب ذكية في إخفاء دورها فيها، ومحذرةً من عواقب التأجيل، وذلك عبر التهديد والتخويف من عدم الاستقرار وحالة الفوضى التي قد تؤول إليها البلاد. وكانت قيادة الأركان قبل الوصول إلى هذه المحطة قد تبنت فكرةَ "مرافقة" الحراك منذ انطلاقته، ثم قامت بعد ذلك بتهيئة الأجواء بعد امتصاص غضب الناس في الشارع وتقليص زخم الحراك لقبول رؤية المؤسسة العسكرية (سلطة الأمر الواقع) من خلال ندوة الحوار والتشاور مع "جميع الأطراف" من الهيئات والشخصيات الفاعلة للوزير السابق عبد العزيز رحابي، ثم عبر إنشاء ما سمي "السلطة الوطنية المستقلة لتنظيم ومراقبة الانتخابات" برئاسة وزير العدل الأسبق محمد شرفي كتتويج لما تمخض عن جهود هيئة الحوار والوساطة التي قادها على مدى أسابيع ابن النظام ورئيس المجلس الوطني الأسبق كريم يونس. ما أفضى في النهاية إلى استدعاء الهيئة الناخبة لإجراء الاستحقاق في الموعد المذكور، وهو ما فتح الباب الآن للترشح لمنصب الرئاسة. كما أن قبول الأطراف المحسوبة على فرنسا من أصحاب الوسط من غير غلاة العلمانيين بهذه الخارطة كمخرج من الانسداد السياسي بعد أن كانت ترفض هذا المسار في بداية الحراك، يؤشر إلى أن هنالك تسويةً قد تمت بالفعل سيحصل بموجبها أقطابُ هذه الزمرة من أمثال على بن فليس رئيس الحكومة الأسبق على بعض الحقائب والمناصب في المنظومة السياسية القادمة، وهو الذي كان منذ بداية الاحتجاجات ممسكاً بالعصا من الوسط كأنه يتهيأ لدور ما سيلعبه مستقبلاً في النظام، ربما كرئيس وزراء بعد انتخاب رئيس الجمهورية القادم. يحدث هذا متزامناً مع موجة اعتقالات في صفوف مَن أسماهم الفريق أحمد قايد صالح "بقايا العصابة" من "الفاسدين" من جميع الأطياف، وخاصةً في صفوف المعارضين من الخصوم السياسيين والناشطين في التحريض على النظام والتعبئة للحراك في شوارع العاصمة لمواجهة أو عرقلة خطة رئاسة الأركان في قابل الأيام.
علماً أن رئيس أركان الجيش كان قد أصدر قبل أيام أوامر لقوات الدرك بمنع دخول العاصمة الجزائرية التي تحتكر كل الثقل السياسي على المحتجين وبالتضييق على أصحاب المركبات التي تحمل الوافدين إليها من كل الولايات بغرض الاحتجاج فيها في أيام الجمعة. ولهذا يبدو من غير الراجح بعد كل هذه الإجراءات والتعزيزات حول العاصمة أن ينجح الحراك مجدداً - وهو لغاية هذه اللحظة بدون رأس - في عرقلة خارطة طريق المؤسسةِ العسكرية صاحبة السطوة والنفوذ، أو في منعِ إجراء الانتخابات في موعدها.
إلا أنه ليس من المؤكد أيضاً أن تنجح السلطةُ في إمضاء الخطة وفرض إجراء الانتخابات الرئاسية في شهر كانون الأول/ديسمبر المقبل رغم كل التدابير المتخذة لإنجاح الاستحقاق، إذا ما خسرت قيادةُ الأركان رهان خنق أو إخماد الحراك وأصر الشارع على رفض هذه الانتخابات مع بقاء رموز نظام بوتفليقة. خصوصاً إذا ما خرجت الحشودُ في الجُمعات المقبلة في كافة المدن رافضةً تعسف السلطة ومتحديةً موقف القيادة العسكرية ومطالبةً بانسحاب أو تنحية رئيس الأركان الفريق أحمد قايد صالح نفسه، وهو ما سيدخل البلدَ في مرحلة جديدة من الصراع. وفي هذه الحالة أي عجز السلطة عن كسر الانتفاضة الشعبية وقررت الجماهيرُ مواصلة الاحتجاج، وأخذَ الحراك بعداً غير متوقع من الحشد والتعبئة في الأسابيع القادمة، فسيدخل البلدُ حتماً في نفق مظلم، إذ سيدفع الحراك بالنظام والسلطة القائمة إلى طريق مسدود. وحينئذ قد تلجأ السلطة إلى فرض تدابير أشد في التضييق ومنع التظاهر قد تصل إلى فرض حالة الاستثناء أو حالة الطوارئ.
بقلم: الأستاذ صالح عبد الرحيم – الجزائر
رأيك في الموضوع