في الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية، فاجأ الشعب التونسي المسلم العالم من جديد وكسر قواعد اللعبة، فلم يستطع أن يؤثر في خياراته، لا المال السياسي القذر ولا الإعلام الفاسد ولا الدعم الغربي لبعض المرشحين ولا الماكينات الانتخابية التي تنتج الحكام والرؤساء، فاختار قيس سعيد الذي لا ينتمي للطبقة السياسية الحاكمة ولا للمعارضة، فحصل على أعلى نسبة من أصوات الناخبين (18.4%)، مخالفا بذلك كل التوقعات.
لقد شهدت الانتخابات الرئاسية رفض أهل تونس للديمقراطية الغربية والقائمين عليها، حيث قاطع الانتخابات معظم الناخبين ولم يشارك منهم إلا 45%، بالرغم من عملية الحشد الكبير التي مارسها الإعلام والهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وذلك لاعتقاد الناس بأن الانتخابات لن تؤدي إلا لتغيير الوجوه مع بقاء النظام. أما المشاركون فقد اختاروا شخصا من خارج المشهد السياسي ظنا منهم أنه قادر على تغيير المنظومة وهو ما يؤكد رفضهم للنظام الغربي ووكلائه في الحكم.
كما كانت هذه النتائج صفعة قوية للإعلام وللطبقة السياسية الحاكمة والمعارضة على حد سواء، وهي في الآن نفسه صفعة قوية لحركة النهضة التي انتهجت سياسة التنازل على حساب دينها وأمتها، فرضيت بعلمنة الدولة، والمثلية الجنسية، واستعدادها للتجاوب مع المساواة في الميراث، وسكتت عن نهب ثروات البلاد وانتهاك سيادتها من السفراء الأجانب، فكان مرشحها في المرتبة الثالثة بعد نبيل القروي المسجون بتهم الفساد والتهرب الضريبي، وفي ذلك رسالة واضحة إلى فشل نظرياتٍ من قبيل: الإصلاح التدريجي والجزئي، وبناء الجسور مع الأنظمة القابعة في البلد الإسلامي، الذي ما زالت تتحكم فيه القوى الاستعمارية بشكلٍ صلفٍ ومهينٍ، بل ومباشرٍ في أكثر الأحيان.
لقد استطاع قيس سعيد جذب الناخبين أثناء حملته الانتخابية برفضه للمثلية الجنسية، والتطبيع مع يهود، والمساواة في الميراث، وبإثارة قضايا لها وقع عند الأمة كمسألة سيادة البلاد ونهب الثروات والاستعمار، وهي قضايا كان لحزب التحرير السبق في عرضها وإثارتها، وهو ما جعل الإعلام يصفه بأنه مرشح حزب التحرير وذلك لعزله سياسيا وتخويف الناس منه، فليلة الانتخابات قال الإعلامي المشهور برهان بسيس: "في غفلة من الجميع... حزب التحرير في طريق مفتوح..."، وقد اشتدت هذه الحملة على هذا المرشح يوم الانتخابات حيث قال أحدهم إن رئيس الدولة هو القائد الأعلى للقوات المسلحة ولا يجوز أن يتولى هذا المنصب مرشح حزب التحرير، إلا أن النتائج كانت عكسية حيث زاد هذا من شعبية قيس سعيد الذي لم تكن وراءه أي ماكينة إعلامية.
وبالرغم من أن هذه النتائج لن تغير شيئا باعتبار أن المشكلة تكمن في الدستور والقوانين الوضعية وليس في شخص الحاكم، إلا أن أول انطباع يحصل هو أن الشعب التونسي المسلم هو شعب حي وواعٍ، ولولا أن الغرب ووكلاءه قد عزلوا الإسلام عن الحكم لكان اختيار الشعب التونسي للإسلام ومشروعه الحضاري الذي يتبناه حزب التحرير أسرع من رد الطرف.
لن يخرج أهلنا في تونسمن تبعية القرار السياسي للخارج بمجرد انتخاب شخص الحاكم حتى لو كان صالحا، لأن قواعد اللعبة يديرها الغرب وفق مقاييسه وشروطه.
إن الحل هو في التحرر الشامل من الغرب وأدواته المحلية، في الاستقلال، في استرجاع السلطان والخروج من الهيمنة، وامتلاك القرار!
التحرر المطلوب ليس هو التحرر من الأنظمة الاستبدادية التي هي أدوات للهيمنة الغربية، وإنما التحرر المطلوب هو تحرر البلاد والعباد من إرادة الأجنبي الذي لم يضمر يوما للإسلام والمسلمين إلا شرا، ومن لا يقين عنده بهذا فليراجع نفسه وليراجع كتاب الله وليراجع التاريخ الحافل بالعداء بين الأمة الإسلامية والغرب الذي لم يتخل يوما عن صليبيته في تعامله مع المسلمين.
التحرر لا يكون إلا بتبني مشروع حضاري من خارج المنظومة الغربية، مشروع سياسي ينبع من عقيدة الأمة وتراثها التشريعي، تتبناه الأمة وتضعه موضع التطبيق والتنفيذ بمساعدة أهل القوة فيها، أي بقيام دولة يكون السلطان الكامل فيها للمسلمين، وهذا لا يكون إلا بدولة ذات شوكة وهيبة تستند في قرارها وسياستها إلى سيادة الشرع وسلطان الأمة دون غيرهما، أي بخلافة راشدة على منهاج النبوة.
دوائر المكر الغربية ووكلاؤها في الحكم سيحاولون التعاملمع هذا الواقع إذا تأكد في الجولة الثانية، خاصة أن الرئيس محدود الصلاحيات وقوانين اللعبة تدور في إطار مبدئه وحضارته، فلن يخرج شيء عن الإطار العام.
لقد بات واضحاً أنّه لا بد من تحرك قوى الأمة الحقيقية في البلاد الإسلامية لتحرير إرادتها، فهل يلعب الجيش في تونس هذا الدور بشكلٍ نظيفٍ بعيدا عن تأثير القوى الغربية، بعد أن تمّ تهميش وتهشيم قوى الأمة الأخرى، ليحسم الصراع لصالح الأمة، وليعتقها من عبوديتها وتسلط الغرب عليها؟ أم سينتظر حتى تدخل البلاد في صراعٍ دامٍ من قبيل ذلك الحاصل في سوريا، أم أنه سيبقى غير مبالٍ بانتظار المطرقة الأمريكية لتفكيكه وإهانته كما فعلت مع جيش العراق؟
من هنا نتوجه إلى مراكز القوة أن يتلقفوا رسالة الشعب التونسي المسلم فيسقطوا المنظومة الغربية المتحكمة ويكسروا القيد الذي كبلنا به الغرب كما كسر الشعب التونسي قواعد اللعبة الانتخابية.
بقلم: الدكتور الأسعد العجيلي
رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية تونس
رأيك في الموضوع