على الرغم من أن الثورة في السودان أسقطت رأس النظام السابق عمر البشير، وحلَّت البرلمان وحلّت أيضا حزب المؤتمر الوطني الحاكم، إلا أن ما يحدث من سيناريوهات متكررة يوصل لنتائج محتومة، وكان الأصل أن نستقي العبر من تجارب البلدان التي قامت بها ثورات الربيع العربي حتى لا نقع فيما وقعوا فيه من واقع لم يحقق ما يصبو إليه الناس، بل أصبحت الحكومات التالية للثورة وبالا عليهم، فحكم في تونس رفيق درب بن علي وحكم في مصر من هو أطغى من مبارك! فما الذي يجعل الأمور تسير في اتجاهات محددة لا تخرج عنها، تفضي إلى النتائج نفسها؟! وكيف يمكن الوصول للتغيير الحقيقي؟
انطلقت الثورة في السودان تبعث في الناس الأمل والثقة بأنّهم قادرون على تغيير المعادلة، بل وأنّهم قادرون على أن يغيروا إلى الأفضل ما داموا قد نجحوا في فك قيودهم من حكم البشير الذي جيش الجيوش لحمايته وربط كل تفاصيل حياة الناس بالرضا به حاكما إلى الأبد، لكن سرعان ما ظهرت أول أزمة عانتها الثورة في السودان في بدايتها وهي عدم وجود برنامج واضح المعالم للحركة الاحتجاجية والشعار الوحيد (تسقط بس)! ونتج ذلك من عدم وجود وعي سياسي ناضج للقيادة الثورية التي تكونت لاحقا يفضي إلى إسقاط النظام ويقود إلى حكم رشيد يقود البلاد إلى طريق النهضة والرقي.
وأكبر خطأ مارسته بعض التيارات الثورية - وأشير هنا بشكل خاصّ إلى بعض الناشطين والقادة في قوى إعلان الحرية والتغيير - أنّها حصرت القضية في التخلّص من ظلم حزب المؤتمر الوطني ومن شخص البشير، فأصبحت التدخلات الأجنبية مباحة والاجتماعات في السفارات الأجنبية وزيارة السفراء والمبعوثين أمرا أكثر من عادي تتداوله وسائط الإعلام كل لحظة! بل اعترف الوسيط الأفريقي بن لبات في تصريح له أن هناك تدخلات أجنبية تعرقل الوصول إلى اتفاق بين أطراف الصراع ولسان الحال والمقال يقول ليذهب البشير وليكن بعد ذلك الحاكم الذي سيأتي خاضعاً لإملاءات السفارات ورهينة للتدخلات الأجنبية… المهم أن نتخلص من الظلم! هذا أخطر توجّه من شأنه أن يجهض الثورة وأن يقضي عليها ويذهب بثمراتها كلّها، تماما كما حدث في تونس ومصر.
لذلك كانت نتائج غياب الوعي السياسي هي الوقوع في شراك مخططات الغرب الاستعماري الذي لا يدعم أحداً من أجل سواد عيونه بل يدعم ليتكسب، ولما كان الوعي السياسي الذي هو النظر للعالم من زاوية خاصة، وهي عندنا بوصفنا مسلمين العقيدة الإسلامية، غائبة تماما عن المشهد، تكونت عقلية سياسية مشتركة في كل البلاد الإسلامية التي قامت فيها ثورات ومنها السودان، لا سيما لدى أحزاب الطبقة السياسية التي تسيطر على مقاليد الأمور، يختزل أزمة نظام الحكم السائد في الأشخاص الذين يتبوؤون رئاسة الحكومة وبمجرد إزاحتهم عن سدة الحكم كأن كل المشاكل حلت وتمت معالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة التي تعاني منها البلاد، لهذا السبب أصبحت البرامج والفكر السياسي للأحزاب السياسية المتحكمة في البلاد محصورة في المحاصصات وأخذ أكبر قسط من كعكة الحكم الديمقراطي التعددي وبذل الوسع في البراغماتية لدرجة أصبحت هذه الأحزاب لا تجيد من الحكم سوى الفوز بالانتخابات، نظراً لاعتماد ماكينة قادرة على الحشد وجمع الأصوات والاستئثار بالنصيب الأكبر من نتائج صناديق الاقتراع! أما ما هو برنامجها للحكم فهذا مأخوذ كأنه قدر لا نقاش فيه ولا بديل عنه!!
والفشل في تحقيق آمال الشعب السوداني كغيره من شعوب المنطقة التي قامت فيها ثورات هو الشيء الوحيد الذي سيحدث حتما، كأنما هي لعنة الثورة غير الواعية تلاحق جميع بلاد المسلمين، بل أصبحت هذه الثورات غير الواعية من مصادر عدم الاستقرار السياسي وفق خطط أعدت خصيصا من بيوت السياسة الاستعمارية التي حذقت تراجيدياتها السياسية التي تبقي المسلمين في ذيل الأمم، ولعب أدوارها البطولية نخبة من أهل البلد الذين لا يجدون حرجا في أن يتقاتلوا ويلعبوا لعبة قذرة متعددة الحلقات وتتشاكس الأطراف وتتكرر الضغوط على الشعب المغلوب على أمره بمزيد من الجراحات والغلاء والترويع والضرب والسحل والقتل للتعبئة المستمرة ليكتمل خداع الناس فينادوا جميعهم بضرورة الاتفاق مهما كانت النتائج! وتحركت آلة الإعلام الموجهة لتحصر انقياد العوام والبسطاء لأحد الطرفين، وهو حتما الطرف المناهض للنظام السابق عندنا في السودان الذي صور للناس زورا أنه مطبق أحكام الشرع، فأصبح الحكم المدني هو المطلب الوحيد للجماهير رغم عدم الوعي على أن المدنية هي علمانية لا تختلف عن علمانية النظام السابق الذي فصل الدين عن الحياة وتابع خطا الغرب في كل ما يمليه عليه حتى أوصل البلاد إلى هذه الحالة البائسة.
وبذلك تكتمل المؤامرة على أهل السودان الذين خرجوا في ثوراتهم ضد الظلم وهضم الحقوق نتيجة فرض النظام السياسي الديمقراطي والنظام الرأسمالي الاقتصادي الذي تبناه النظام السابق والذي ينادي به قادة التغيير على أنه الحل السحري لمشاكل الناس، فامتلأت الوثائق الموقّع عليها بين طرفي الصراع بمفاهيم الحكم الديمقراطي الذي بُني على قاعدة أنّ السيادة والسلطة للشعب، والنظام الاقتصادي الرأسمالي الذي لن يخرج على قواعد حرية التملّك ونظام السوق ونظرية الندرة النسبية للسلع والخدمات، والنظام الاجتماعي بُنيَ في الوثيقة على قاعدة الحرية الشخصية والمساواة، وقوانين الإعلام والصحافة بُنيَت على قاعدة حرية الرأي، فقد ضم الفصل الأول من اتفاق المبادئ العامة، مؤكداً قدسية مبدأ الوحدة الوطنية للسودان بكل تنوعاته والتزام مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، كل ذلك هو عصب النظام السابق بل أخلص في تطبيقه بصورة منقطعة النظير...
والعجب العجاب ورد في الفصل السادس والأخير فجاء ما نصه:
(الفصل السادس: المساندة الإقليمية والدولية
20. يدعو الطرفان الاتحاد الأفريقي، والهيئة الحكومية للتنمية (الإيقاد)، والأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وجامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، والدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وكافة الدول الشقيقة والصديقة، لحشد الدعم القوي الاقتصادي والمالي والإنساني لإنقاذ هذا الاتفاق ومساندة السلطات الانتقالية لأجل تحقيق النجاح التام لمهامها ووظائفها المختلفة.
21. يناشد الطرفان المنظمات والدول الشقيقة والصديقة المذكورة السعي لدى الدول والمنظمات الإقليمية والدولية للمساعدة في رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية (للإرهاب) ورفع العقوبات وإعفاء الديون).
وبهذا يسلم مصير أهل السودان للأيادي الخبيثة نفسها التي طالما اتكأ عليها النظام السابق فباعته بدون ثمن؛ لم يتغير شيء، بل نقل الوضع إلى خطوة جديدة لا تفلت من يد المانحين والشركاء الذين رعوا المفاوضات!!
رأيك في الموضوع