لا بد قبل الخوض في بحر الفساد الذي غرق العراق فيه، من الوقوف على ماهية الفساد وأنواعه التي إذا حلت في بلد، فإن مصيره سيؤول إلى خراب. فالفساد نقيض الصلاح، وهو عموما ظاهرة مركبة ومعقدة، تشمل الاختلالات التي تمس الجوانب الحياتية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والقيمية. فغياب العدل بين الناس فساد، وأكل الأموال بغير حق فساد، والحكم بغير شرع الله عز وجل من أعظم الفساد، ولا يقل جرما عنه تمكين الكافر من حكم المسلمين.
أما مناسبة الحديث عن الفساد، فإن رئيس الحكومة العراقية عادل عبد المهدي أعلن الثلاثاء 23 تموز 2019 عن صدور أوامر بإلقاء القبض على 11 وزيرا ومن هم بدرجتهم، مشيرا إلى أن هناك قضايا لم تحسم بمختلف مؤسسات الدولة بلغت بمجملها 4117 قضية، منها 1367 قضية فساد محالة إلى محاكم النزاهة. (الخليج أون لاين، وروسيا اليوم). وقال مصدر مطلع لـ"الشرق الأوسط": إن أوامر القبض هذه لا تشمل وزراء في الحكومة الحالية بل تشمل وزراء سابقين، يعيش بعضهم خارج العراق. (الشرق الأوسط 24/7).
والكلام عن مكافحة الفساد مضى عليه أكثر من عقد من الزمن على تعاقب الحكومات، لكن شيئا من ذلك لم يحصل حتى الآن. أي أن تلك التصريحات هي محاولات لتهدئة الشارع العراقي الذي يتداول أخبار الفساد والفاسدين. ودليل ذلك أحداث كثيرة وقعت وجرى التحقيق فيها دون ظهور نتائجها. من أمثلتها: مجزرة معسكر "سبايكر" التي ذهب ضحيتها أكثر من ألفين من طلاب القوة الجوية على أيدي تنظيم الدولة، ثم قضية سقوط الموصل بيد التنظيم المذكور، وصفقات الأسلحة وما رافقها من عمولات، وغيرها كثير... ويردد المسؤولون العراقيون: أن خسائر العراق منذ العام 2003، جراء الفساد الإداري والمالي، تبلغ مئات مليارات الدولارات دون تحديد واضح للقيمة الحقيقية بسبب تشعب الفساد. لكن الجهات الرقابية قدرتها، بما لا يقل عن 450 مليار دولار في أقل من 10 سنوات. (الحرة 3 حزيران 2019).
ولقد صادق رئيس الحكومة بداية العام الجاري على تشكيل مجلس أعلى لمكافحة الفساد، وحدد له مهامه الرئيسة، "كتمكينه من اتخاذ الإجراءات الرادعة، وتوحيد جهود الجهات الرقابية في سياق عمل قادر على التصدي لأي جهة أو شخص مهما كان موقعه". وأردف قائلا: "وأن نتصرف كدولة في كشف الفساد وحماية المجتمع والمواطنين والمال العام، على حد سواء". وأريد لهذا المجلس أن يكون بمثابة الجهاز التنفيذي لمكافحة الفساد، ولذا فإنه يضم الرؤساء التنفيذيين للمؤسسات المركزية المخولة عادة بمكافحة الفساد، كهيئة النزاهة، وديوان الرقابة المالية، والادعاء العام، ومكتب المفتش العام، مع عدد من المسؤولين الأمنيين، ويرأس المجلس، بطبيعة الحال، رئيس الوزراء.
ورغم تشكيل المجلس المذكور، وحشد كم من المسؤولين ذوي الاختصاص في القضايا المالية والأمنية، إلا أن الفساد لفشوّه وتجذره، يتعذر على أي برنامج أو استراتيجية سياسية أن تعالجه أو تضع له حدا، لأسباب تتعلق بطبيعة هذا الفساد وأدواره وعلاقاته بالقوى السياسية وموقع العراق في الخريطة الإقليمية وصراعاته الداخلية.
ومن تلك الأسباب ما يتعلق بآلية تشكيل الحكومات العراقية كجهاز وظيفي، بمراعاة التوافق بين القوى السياسية الفاسدة، أعني نظام المحاصصة في كل منصب أو لجنة برلمانية أو غيرها. فيحرص أي مسؤول أو عضو على ستر عورات حزبه الذي ينتمي إليه، فمن سيمسك الفاسد ويسلمه للعدالة إذن؟! ثم سبب آخر يتعلق بآليات مكافحة الفساد، التي لو نفذت، فإنها ستؤدي حتما لحدوث حروب أهلية، لأنها تعني محق قوة سياسية ما على يد قوة أخرى.
وسبب ثالث بزعمهم يعيق جهود من يطارد الفساد يتمثل في كثرة وتنوع منافذه التي بلغت بحسب الحكومة 40 منفذا رئيسا، يجب التركيز عليها كمرحلة أولى، كي تستطيع الدولة استرجاع هيبتها، وهي على سبيل المثال: تهريب النفط، جرائم الحرب، والانتهاكات، والإخفاء القسري، وانتهاء بسقوط المدن على يد تنظيم الدولة منتصف عام 2014، إبان ولاية المالكي، والمنافذ الحدودية، والجمارك، وتجارة الذهب وتهريبه، والسجون، والمكاتب الاقتصادية في المحافظات والوزارات، وتجارة الحبوب والمواشي، وشبكة الاتصالات والإنترنت والهواتف النقالة... إلخ. وتقدر الحكومة العراقية تلك الملفات بحوالي 13 ألف ملف للفساد، والمتورطين فيها بقرابة مليون مشتبه، بين فاسد ومرتش ومعطل للقانون العام. وتعد وزارتا النفط والدفاع من أكثر وزارات العراق فسادا على الإطلاق. فضلا عن القيادات السياسية البارزة، التي لها أجنحة مسلحة، ما يجعل الملف بمثابة حقل ألغام يتجنب الجميع الخوض فيه، حتى بات القول: إن فتح ذلك الملف يعني نسف العملية السياسية برمتها.
وأخيرا، فقد بقي أن نسلط الضوء على ما سيق في صدر هذا البحث من (صعوبات أو مبررات) تذرعت بها الحكومات السابقة واللاحقة بإعلان عجزها أو قل: رضاها وتواطئها مع ما يجري من فساد ونهب للثروات على أيدي حفنة من شذاذ الآفاق ممن أتت بهم أمريكا الكافرة فباعوا دنياهم بآخرتهم، ونسوا الله فنسيهم، أن ذلك مرفوض رفضا قاطعا ولا يسوغ القبول به بذريعة الخوف من انهيار "العملية السياسية" أو ما شابه، وليذهب جميعه إلى الجحيم ومعه الساسة والقادة العملاء. فقد بات العراق بحكم تلك الفلسفة مشروعا للبيع، وكثرت المظالم وتفاقمت البطالة، وازداد الفقراء، وضاقت سبل العيش، وتسنُّم المناصب من أناس يخافون الأحزاب أو المليشيات، ويراعون أوامر الكافرين قد فاقم المشاكل وعقّدها.
إن إصلاح ما يجري بحاجة لرجال كأبي بكر الصديق رضي الله عنه حين ولي الخلافة بعد رسول الله e، فقال قولا سديدا في أول خطبة له: «الصِّدقُ أمَانة، والكَذِبُ خِيانَة، والضَّعِيفُ فِيكُم قَوِيٌّ عِندِي حَتَّى أرِيْحَ عَليْهِ حَقهُ إنْ شَاءَ اللهُ، والقَوِيُّ فِيكُم ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الحَقَّ مِنهُ إنْ شَاءَ اللهُ»، فنحن اليوم بحاجة لرجال ربانيين، يقيمون صروح العدل في الأمة بدولة الخلافة الراشدة الثانية، يأخذون على أيدي الظالمين والعابثين بحقوق الناس، وينسون الكافرين وساوس الشيطان.
بقلم: الأستاذ عبد الرحمن الواثق – ولاية العراق
رأيك في الموضوع