نقل موقع روسيا اليوم بتاريخ 28/6/2019 عن صحيفة (إيزفيستيا الروسية)؛ (...بأن وزير المالية الروسي أنطوت سيلوانوف، ورئيس بنك الشعب الصيني يي هانغ؛ قد وقعا اتفاقا مطلع الشهر الجاري للاستغناء عن الدولار في المعاملات التجارية بينهما، وإحلال الروبل الروسي واليوان الصيني مكانه في هذه المعاملات، وأن البلدين يعملان الآن على تنظيم قنوات للدفع بين الشركات الروسية والصينية؛ وهي قنوات ستكون صلة وصل بين منظومتي الدفع الروسية والصينية...)؛ فهل بدأ العد التنازلي لنزول الدولار عن عرش هيمنته العالمية، وهل تتمكن هذه الدول من الاستغناء عن الدولار، وتحدّي عنجهية أمريكا وغطرستها؟ وما هي النتائج المحتملة على المدى القريب لمثل هذه السياسات العالمية؟ وما هو خطر ذلك على الاقتصاد العالمي؟
إن موضوع محاولات الانعتاق من عبودية الدولار، وتحكماته بالاقتصاد العالمي ليست جديدة فقد حصلت محاولات عدة للانعتاق من هذه العبودية، لكن غطرسة أمريكا وقوتها السياسية والاقتصادية كانت تحول دون نجاح مثل هذه المحاولات؛ إما عن طريق التهديد والوعيد، أو عن طريق الإغراءات الاقتصادية، وأسواق التجارة الدولية!!
وقبل أن نذكر بعضاً من هذه المحاولات نقول: بأن أمريكا قد فرضت نفسها ملكا وسيداً اقتصاديا على الساحة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، وفرضت نفسها منقذا للدول الأوروبية من الانهيارات الاقتصادية التي خلفتها نتائج الحرب؛ حيث خرجت من الحرب بانتصار عسكري واقتصادي كبير؛ بعكس الدول الأوروبية التي خرجت محطمة اقتصاديا وتحتاج إلى من ينقذها، ووضعت بعد الحرب مباشرة قواعد النظام المالي الجديد ضمن اتفاقية (بريتون وودز) سنة 1944؛ وقد اعتمد هذا المؤتمر الخطة الأمريكية، واستبعد مشروع كينز الذي يُمثل المصالح الأوروبية، واعتمد الدولار كذلك كغطاء نقدي للعملات الأخرى؛ بجانب الذهب على أساس سعر صرف ثابت 35 دولارا للأونصة الواحدة. وظل هذا الأمر قائما حتى تنصلت أمريكا منه سنة 1971، وعوّمت الدولار حسب سعر السوق والعرض والطلب، وتخلت عن القيد الذهبي؛ وبذلك فرضت الدولار غطاءً نقديا دون غطاء حقيقي؛ أي فرضت نفسها على العالم اقتصاديا بالقوة والغطرسة. ومنذ ذلك التاريخ والعالم كله يعاني من هيمنة أمريكا وتحكماتها وأطماعها، ومصها لدماء العالم أجمع حتى بما فيه الدول العملاقة اقتصاديا؛ كأوروبا والصين وروسيا!!
لقد ظهرت تصريحات عدة على ألسنة الساسة والاقتصاديين تنادي بالانعتاق من هيمنة الدولار، وخرجت بعض المحاولات الضعيفة إلى العلن، ولكنها سرعان ما كانت تتلاشى بسبب التهديد والإغراء الأمريكي، وكان أشهر هذه المحاولات وأكثرها مواجهة لسياسة أمريكا الاقتصادية؛ هو الاتحاد الأوروبي والعملة الموحدة كخطوة على طريق الوحدة الاقتصادية والسياسية، إلا أن أمريكا وقفت للاتحاد الأوروبي بالمرصاد؛ تبتزه سياسيا واقتصاديا عن طريق بعض الدول العميلة لأمريكا داخل هذا الاتحاد، وعن طريق الأسواق الأمريكية الضرورية لمنتجات الاتحاد، ثم عملت أخيرا على تشجيع بريطانيا للخروج من الاتحاد. وما زالت تضع العراقيل أمامه لإبقائه تحت هيمنتها السياسية والاقتصادية.
لقد جاءت هذه المحاولة من الصين كعملاق اقتصادي يمثل المرتبة الثانية عالميا في حجم الاقتصاد والأول في حجم التجارة الخارجية. وقد سبق هذه المحاولة محاولة أخرى تمثلت في استبدال الذهب بقسم من الاحتياطي الدولاري؛ مما حدى بأمريكا إلى استخدام لهجة التهديد بالأسواق الأمريكية تارة، وبفرض ضرائب على الواردات من الصين وبالإغراءات أيضا تارة أخرى.
ولكن الأمر المهم في هذا الموضوع؛ هو أن مثل هذه المحاولات وإن كانت تؤثر على أمريكا واقتصادها ولكنها غير كافية للانعتاق من عبودية أمريكا الاقتصادية. والذي يقود إلى مثل هذا الانعتاق الفعلي؛ هو تضافر جهود الدول الكبرى اقتصاديا وخاصة الاتحاد الأوروبي والصين واليابان والخروج بقرار جريء باتخاذ الذهب عملة عالمية، أو اتخاذ الذهب غطاء حقيقيا لعملات هذه الدول أو إحداها لتكون غطاء لجميع معاملات هذه الدول. عند ذلك يفقد الدولار هيمنته العالمية، ويهتز عرشه بل ويسقط أرضا سريعا، ويسقط معه العرش الأمريكي برمته؛ العسكري والسياسي وتصبح أمريكا بلا مخالب ولا أسنان، وتتفكك إلى خمسين ولاية خلال أشهر معدودات.
إن موضوع الخروج عن عبودية أمريكا يحتاج إلى دول قادرة على التحدي والصمود، وليس إلى دول ضعيفة القرار، غير جريئة كالعبد الآبق؛ الذي سرعان ما يعود لسيده بمجرد أن يلوح له بالعصا. والحقيقة أن هذا الأمر ليس سهلا على مثل هذه الدول؛ التي ربطت نفسها بذيل أمريكا الاقتصادي؛ في أسواقها وتجاراتها الخارجية، وعملتها واحتياطيها من العملات الصعبة. إن هذا الأمر يحتاج إلى دولة مبدئية، لا تحسب أي حساب لأمريكا، وتتحدى وتتصدى حتى وإن جاعت في بداية الأمر وضاقت أحوالها الاقتصادية. وهذا في الحقيقة لا يحدث في الوقت الحاضر إلا بأحد أمرين؛ الأول: تعاضد الدول العملاقة وتحديها لأمريكا، وإصدار عملة ذات غطاء ذهبي كامل، والثاني: بروز دولة مبدئية تطبق النظام الذهبي، ويكون عندها القدرة على التحدي والصمود؛ وهذا يكون في حالة بروز الدولة الإسلامية المبدئية.
أما بالنسبة لتأثيرات هذه الأمور على الساحة الدولية اقتصاديا وسياسيا، فإن هذه الأمور تحدث إرباكاً لأمريكا، وتؤثر على قوة اقتصادها، وتضعف هيمنتها الدولارية، وتؤدي كذلك إلى إضعاف الدولار، وإلى اهتزازات في أسواق المال؛ أي تؤدي إلى بداية صراع اقتصادي ينعكس على كل النشاطات الاقتصادية كأسعار البترول وأسعار الأسهم، والتبادلات التجارية والتعرفات الجمركية بين الدول، ولا يستبعد أن تنقل العالم شيئا فشيئا إلى خروج الأزمة العالمية على السطح كما خرجت سنة 2008.
إن مثل هذه الصراعات والمناكفات السياسية والاقتصادية بين دول العالم؛ تظهر الحقيقة الساطعة لكل ذي عقل سليم وهي أن العالم كله على شفير الهاوية، والعالم كله يكتوي بسياسات فاشلة وظالمة ومعوجة أصلا عن الخط المستقيم، وإن مثل هذا الأمر ليدفع العالم دفعا إلى منقذ حقيقي؛ يخلص العالم من ويلات التحكمات والأزمات والهزات المالية والاقتصادية، ويعمل على إيصال الحقوق إلى أصحابها، ويوزع الثروة بالعدل والقسطاس المستقيم، وينقذ الملايين من المشردين في أرجاء الأرض، من المجاعات والفقر والعوز. إن هذا المنقذ هو نظام الإسلام في ظل دولة الخلافة على منهاج النبوة. فنسأله تبارك وتعالى أن يكرم البشرية قريبا بعدلها ونورها وخيرها العميم... اللهم آمين.
بقلم: الأستاذ حمد طبيب – بيت المقدس
رأيك في الموضوع