بدأ هامش المناورة يضيق أمام النظام الجزائري على وقع خروج الناس إلى الشارع بعد إعلان بوتفليقة عن ترشحه لولاية خامسة في خطوة حملت الكثيرَ من الاستفزاز والإهانة لشعبٍ مسلمٍ مجاهد ضحى بأكثر من مليون ونصف المليون من الشهداء لإخراج المستعمر الفرنسي من البلاد. كانت الشرارة أن انطلقت مسيراتٌ منددة بالعهدة الخامسة لبوتفليقة من مدينة خراطة شرق البلاد ومناطق أخرى مجاورة. ثم أعقب ذلك خروج أعداد كبيرة من الناس أكثرهم من الشباب دون الثلاثين إلى شوارع جل المدن الكبرى في الجزائر عقب صلاة الجمعة 22/02/2019م محتجين ورافضين منطق "الاستمرارية". ثم ما لبثت الاحتجاجات التي اندلعت يوم الجمعة التالية أن امتدت إلى جميع أنحاء البلاد فيمشهد فريد غير متوقع. وبصوت واحد تجاوز سريعاً مسألة العهدة الخامسة لبوتفليقة وصار يطالب بتغيير النظام كله. ومن المؤكد الآن أن أصحاب القرار باتوا في مأزق بعد أن انضم للحراك طلابُ وأساتذة الجامعات والمحامون وشخصيات سياسية بارزة وحتى تلاميذ المدارس.ورغم أن التظاهرات السلمية والمسيرات كانت قد مُنعت في العاصمة قانوناً منذ سنوات بحجة المحافظة على الأمن والاستقرار، إلا أن مسيرات سلميةً حاشدة ومنظمة جابت شوارع العاصمة الجزائرية. كما شهدت الجزائر الوسطى تجمهراً كبيراً ضم طلبة الجامعة المركزية وطلبة معاهد وكليات الجامعات الأخرى تجاوزت حواجز وقوانين السلطة بشكل غير مسبوقٍ وشاركت فيها أعداد كبيرة من الناس صغاراً وكباراً نساءً ورجالاً من كافة الشرائح في موجة من الغضب الرافض لاستمرار نظام قمعي فاسدٍ متهالك.
من ناحية أخرى فإن الدلائل قوية على أن الموالين للجناح الفرنسي في المؤسسة الحاكمة في البلاد، هم مَن وراء الأحداث منذ بدايتها رغم عدم تبنيها من أي طرف! وكان رواد مواقع التواصل وهي أطراف مجهولة في أغلبها تنادوا بشكل متناغم منذ أسابيع أي قبل الإعلان عن ترشح بوتفليقة بشكل رسمي لدفع الناس وحثهم على النزول للتظاهر. وهو ما تجلى في النزول للشارع والمطالبة بإزاحة بوتفليقة، في لحظة من لحظات الصراع مع الخصوم استُغلت فيها مشاعر الغضب العارم ووظفت فيها حالةُ الانسداد السياسي الكبيرالتي باتت تشهدها الجزائرُ بشكل متصاعد مخيف مع اقتراب موعد الرئاسيات،وحالة الاحتقان الشعبي الشديد التي تمخضت عن سوء الرعاية على كافة المستويات على وقع انهيار سعر النفط وهبوط سعر العملة المحلية وازدياد البطالة ونهب المال العام وغير ذلك، والذي كان من تداعياته غليان شعبي وموجة من الاضطرابات والإضرابات اجتاحت البلاد منذ بدايات الولاية الرابعة لبوتفليقة بشكل غير مسبوقٍ في قطاعات عدة، شملت الأطباء المقيمين ومستخدمي الشبه-طبي وأساتذة التعليم الثانوي والعاطلين من الشباب في الجنوب وطلاب المدارس العليا لتخريج الأساتذة ومتقاعدي الجيش الذين مُنعوا بالقوة من التظاهر في العاصمة، وعمال الصيانة في شركة الخطوط الجوية العمومية. وقد ابتهج لهذا الحراك الشعبي على الخصوص العلمانيون المرتبطون فكراً وشعوراً بالمستعمِر القديم إلى درجة أن دفعهم هذا النجاح في تحريك الشارع في هذا الظرف السياسي بهذا الحجم إلى رفع سقف الاحتجاجات إلى ما فوق إلغاء العهدة الخامسة بل إلى تغيير النظام وإنشاء "الجمهورية الثانية"! كما ابتهجت له شرائح واسعة من الناس خصوصاً من صغار السن من الشباب المتحمس للتغيير دون أن تدرك أبعاده ومآلاته. كما لوحظ في صفوف الكثير من الأحزاب والمؤسسات والهيئات والنقابات تصدعات وانشقاقات وانقسامات وانحياز بالكامل للحراك الشعبي، بل حتى من داخل البرلمان وصفوف جبهة التحرير الوطني ومن منتدى رؤساء المؤسسات الاقتصادية ومن طواقم حملات المترشحين للرئاسيات!!
ولا شك أن الحراك هذه المرة أيضاً هو صراع على المواقع بين العُصب المتناحرة محلياً وتجاذبات تتجلى في تحريك الشارع، يستخدمها هذا الطرف الموالي لفرنسا الذي له امتداد في الأوساط الثقافية والاقتصادية والإعلامية وفي كافة أجهزة ومؤسسات الدولة بدءاً بالجيش والمخابرات والأحزاب والإدارة... يستخدمها ضد الجناح المتحكم في السلطة المرتبط عبر زمرة بوتفليقة بالإنجليز، وذلك من أجل التموقع بغرض تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وثقافية، حتى لو تحقق ذلك على حساب دماء أهل الجزائر!... ولا يخفى ما للغرب المستعمِر من فوائد ومآرب عبر عملائه في شق عصا المسلمين بهذه الطريقة اللئيمة ودق إسفين الفرقة والخلاف، وتشتيتهم بالقومية والوطنية واختلاف اللغة، وغيرها. لذلك تحـتم إبراز وجود يد الكافر المستعمِر الآثمة الخبيثة في المسألة، وكيف يجري توظيفُ أبناء الأمة الإسلامية فكرياً وسياسياً لصالح هذا العدو الغربي اللئيم أو ذاك.
ورغم أن زمرة بوتفليقة تحاول بعد أن رأت حجم سخط الناس في الشارع؛ امتصاص الغضب واحتواء الحراك من خلال تجاوب رئيس أركان الجيش أحمد قايد صالح مع حراك الشارع في تصريحات جديدة سُحبت منها عبارات التخويف والتهديد بأطراف داخلية وأخرى خارجية تسعى لزعزعة الاستقرار في البلاد! ومن خلال رسالة من الرئاسة تثمن سلمية الحراك ويتعهد فيها الرئيس في حالة انتخب لفترة خامسة بإجراء إصلاحات عميقة تصل إلى تعديل الدستور في العمق بل إلى تغيير النظام من خلال وضع أرضية جديدة للتوافق أو الإجماع الوطني والدخول في مرحلة جديدة لا تتعدى السنة يتحدد بموجب قواعد جديدة للدولة إجراء انتخابات رئاسية لا يترشح فيها بوتفليقة.
وبينما بدا على الأوروبيين والأوساط الدولية حذر شديد من تحول الأوضاع في الجزائر، وجاءت من واشنطن تحديداً ردود أفعال تحذر من مغبة قمع المتظاهرين سلمياً.. فإن من المرجح ألا يصل الحراك إلى حد قلب الطاولة على الزمرة المتحكمة في دواليب السلطة، إذ بيدها قيادة أركان الجيش وجميع مراكز القرار وتمتلك القوة الحقيقية على الأرض. ولكن ما يحز في النفس ويدمي القلب حقيقةً هو أن انتفاضة أهل الجزائر على النظام الفاسد - وهم جميعاً مسلمون - ليس فيها عنوان سياسي على أساس مبدأ الأمة بقيادة واعية مبصرة لطريق الخلاص، وليس فيها من بين هذه الجموع في الشارع مَن يصدع ويصدح بما يجب أن يكون في بلاد المسلمين: دولة على أساس الإسلام تقود نحو المخرج الصحيح وتضع الأمةَ على الصراط المستقيم. فكأن الإسلام الذي في عقول وقلوب أهل البلاد لا شأن له بالسياسة! بل وصل الأمر إلى أن استجاب معظمُ المنتفضين الذين جابوا الشوارع لنداءات الأطراف العلمانية المحركة المغرضة عبر مواقع التواصل بعدم رفع الشعارات الإسلامية بحجة أن وقتها لم يحن بعد!! بل بحجة عدم تفريق صف المحتجين تارةً، أو بحجة عدم إعطاء الفرصة للأعداء في الغرب والعودة إلى سنوات الجمر والدم تارةً أخرى!!! وبات الشعار المفضل للجميع هو "الحرية أولاً... الشعب يريد...!" إذ صدَّقوا أكذوبة الديمقراطية ووهم الدولة المدنية... فماذا يريد الشعب حقيقةً يا ترى؟
إننا من هذا المنبر نقول: إن الحقيقة الساطعة هي أن طريق الانعتاق من هيمنة الغرب الكافر هو عودة الخلافة إلى بلاد المسلمين عزيزةً منيعةً تحقق حسن الرعاية وتقهر الأعداء المستعمرين، وتمكن من حمل الإسلام إلى الناس كافة في جميع أنحاء المعمورة، كما أمر رب العالمين.
بقلم: الأستاذ صالح عبد الرحيم – الجزائر
رأيك في الموضوع