يتفق روّاد السياسة والاقتصاد في العالم؛ بأن أمريكا هذه الأيام عملاق اقتصادي وعسكري، يتربع على رأس الهرم العالمي، بلا منازع مؤثر ينزلها عن هذه المكانة. ويتفقون أيضا أن هذا العملاق الضخم مثخن بالجراح والنزيف الاقتصادي؛ الذي يكاد يقتله لولا كثرة الروافد الخارجية؛ التي تمده بدماء جديدة فتبقيه قويا؛ واقفا على أقدامه لا يسقط أرضا.
فأمريكا هي صاحبة العملة العالمية؛ التي تتحكم بكل العملات النقدية، وتجري بها التبادلات في المصارف والأسواق العالمية، وهي صاحبة أكبر إنتاج للسلع والخدمات العالمية؛ حيث يقدر الخبراء حجم الإنتاج الأمريكي بأكثر من 25% من الإنتاج العالمي، وهي أكبر مصدر للأسلحة؛ حيث إن ثلاثة أرباع مبيعات الأسلحة في العالم هي أمريكية، وهي أكبر مصدر للبضائع في العالم حيث تسيطر على 20% من التجارة العالمية. وتترأس أمريكا أكبر المؤسسات العالمية؛ التي تسيطر على الاقتصاد العالمي، وتملك أربعة من أصل سبعة مصارف عالمية. وتسيطر على السوق النفطي العالمي، وتتحكم بأسعاره. وهي الدولة الأولى في مجال البحث العلمي والمخترعات. وفي المجال العسكري؛ فإن أمريكا هي الدولة الأولى عسكريا، وتتفوق على دول العالم أجمع بالتكنولوجيا العسكرية، وفي انتشار قواعدها العسكرية على معظم أنحاء العالم، وتتفوق أيضا في مشروع حرب النجوم وغزو الفضاء، وتملك أيضا أساطيل عملاقة من حاملات الطائرات والسفن الحربية العملاقة والأساطيل البحرية؛ التي تجوب البحار والمحيطات...
ولكن رغم هذا الحجم الهائل للاقتصاد الأمريكي فإن أمريكا تعاني من عجز في ميزانها التجاري وفي ميزانيتها، وتعاني من التضخم والبطالة. والسبب يعود إلى:
أولا: كثرة النفقات والبذخ الذي يتميز به الشعب الأمريكي عن غيره من الشعوب؛ حيث إنه ينفق أكثر مما ينتج.
ثانيا: كثرة النفقات الخارجية التي تقوم بها أمريكا خارج أرضها؛ بسبب الحروب التي تفتعلها؛ كحرب العراق وأفغانستان، وحرب الشام وغيرها. والنفقات الكبيرة التي تتحملها بسبب القواعد العسكرية المنتشرة في أنحاء عديدة من العالم.
ثالثا: النفقات الهائلة على وزارة الدفاع حيث يبلغ إجمالي ميزانية البنتاغون لسنة 2018 حوالي 700 مليار دولار.
وبسبب هذا الحجم الكبير من النفقات فقد بلغ حجم الدين الأمريكي حسب إحصائية وزارة الخزانة الأمريكية 2018 حوالي 21 تريليونو13 مليار دولار أمريكي؛ وهو ما يناهز 98٪ من الناتج المحلي الإجمالي؛ يبلغ نصيب الجهات الخارجية من هذا الدين 9.7 تريليون دولار أمريكي، أما الباقي ومقداره 4.6 تريليون دولار فهو لأطراف داخلية؛ كحكومات الولايات أو الحكومة الاتحادية. وبلغ العجز في الميزان التجاري الأمريكي 53 مليار دولار، وعجز الموازنة 779 مليار دولار لسنة 2018 حسب إحصائية وزارة الخزانة الأمريكية... وتعاني أمريكا أيضا من ازدياد وتصاعد أرقام التضخم والبطالة المتزايدة في كل عام.
لقد دفعت هذه المشاكل الاقتصادية، والأزمات المتتالية الساسة في البيت الأبيض لزيادة التغول على دول العالم اقتصاديا؛ حيث صارت أمريكا تمارس الحروب التجارية السافرة، وسياسات الابتزاز المالي والتجاري، وتتجاوز الاتفاقات الدولية الموقعة مثل اتفاقية التعرفة الجمركية، واتفاقية سعر الفائدة للبنوك والمصارف. وازداد تغولها في الفترة الأخيرة بمطالبة بعض الدول صراحة بدفع إتاوات (الحماية الأمريكية)؛ كما حصل مع السعودية ودول الاتحاد الأوروبي. وقامت أمريكا أيضا بزيادة وتيرة الحرب التجارية على جبهات عدة منها النفطي ومنها الأسواق التجارية ومنها رفع أسعار الفائدة، ومنها فرض الضرائب على السلع الوافدة من بعض الدول... وغير ذلك من أساليب الحرب التجارية الظاهرة والخفية.
فبعد تصريحاته المتكررة، التي طالب فيها السعودية بأن تدفع لأمريكا ثمن حمايتها لها، وجه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب دعوة مماثلة إلى دول الاتحاد الأوروبي لكي تدفع مقابل حمايتها العسكرية. فقال في تصريح بتاريخ 25/11/2018: (إن أوروبا عليها أن تدفع حصة عادلة من أجل حمايتها العسكرية. الاتحاد الأوروبي استغلنا لسنوات طويلة على صعيد التجارة، وبعدها لا يقدمون التزاماتهم العسكرية عبر الناتو، الأمور يجب أن تتغير سريعا).
إن هذا التغول الأمريكي على دول العالم وخاصة العظمى منها لينذر بكوارث اقتصادية قادمة؛ حذر منها أكثر من خبير اقتصادي. فما تقوم به أمريكا تجاه الاتحاد الأوروبي خاصة، ينذر بتفاقم أزمة هذا الاتحاد الاقتصادية، وبالتالي تعميق الأزمة الاقتصادية والمالية التي ما زال العالم يرزح تحت آثارها حتى اليوم ولم يتعاف منها. فالاتحاد الأوروبي هو ثاني أكبر اقتصاد عالمي ويمثل 20% من الاقتصاد العالمي. وهو قائم على أساس واهٍ ضعيف لا يصمد أمام الحروب الاقتصادية، ولا حتى السياسية؛ وذلك بسبب عدم الانسجام بين دوله اقتصاديا وعرقيا، وفي معظم المجالات... عدا عن أن معظم دول هذا الاتحاد تعاني من مشاكل اقتصادية عميقة مثل إسبانياوإيطاليا واليونان، وغيرها من دول الاتحاد. ولن تسلم أمريكا نفسها من هذه الحروب المتتالية؛ تماما كما أنها لم تسلم من الحروب العسكرية. فالحروب الاقتصادية بالذات ترفع سعر الفائدة البنكية لها مردود سيئ على الصناعات والشركات الأمريكية، وبالتالي ترهق الاقتصاد الأمريكي وتحمله أعباء جديدة. فقد ذكر ملياردير الصناعة الأمريكي تشارلز كوتش في 30 تموز/يوليو 2018: (إن سياسات الرئيس دونالد ترامب التجارية قد تؤدي إلى ركود اقتصادي)... أما وزراء مالية الاتحاد الأوروبي فقد حذروا أكثر من مرة في اجتماعاتهم الاقتصادية؛ في قمة الثماني أو قمة العشرين من هذا العام وقالوا: (نحن قلقون بشأن خطر تصاعد التوترات التجارية، وهو ما يمكن أن يكون له تأثير سلبي خطير على قوة وشمولية واستدامة وتوازن النمو والاستثمار العالمي). أما وزير الاقتصاد الألماني بيتر ألتماير فقد انتقد بشدة سياسات الرسوم الجمركية، والعقوبات التي ينتهجها ترامب، قائلا: (إن مثل تلك الإجراءات تدمر الوظائف والنمو وإن أوروبا لن تخضع للضغوط الأمريكية بشأن إيران). وقد هبطت الأسهم الأوروبية بتاريخ 2/3/2018 إلى أدنى مستوياتها في ستة أشهر؛ بعد أن قال ترامب: (إن الولايات المتحدة ستفرض تعرفات جمركية على واردات الصلب والألمنيوم). وصرح رئيس لجنة المال في مجلس الشيوخ الجمهوري أورين ها تش بشأن زيادة رسوم الضرائب على الواردات؛ بأن هذه الرسوم لها عواقب مضرة على المستهلكين والمصنعين والعمال على حد سواء.
وفي الختام نقول: إن النظام الرأسمالي قائم على المصالح والمنافع، وكسب المال بأي طريق كان؛ حتى وإن كان على حساب إزهاق الأنفس، وسلب الأموال والثروات. وليس بعيدا عنا الاستعمار السياسي في بدايات القرن الماضي وأواسطه، ولا بعيدةً عنا الحربان العالميتان. وليس بعيدا عنا كذلك احتلال أمريكا للعراق وأفغانستان. فالدول الرأسمالية مستعدة لحرب بعضها بعضا؛ من أجل المنافع. وأمريكا خاصة مستعدة لتدمير العالم أجمعبغية هيمنتها وبقائها على عرش العالم. ولن ينقذ البشرية من هذه الوحوش إلا عدل الإسلام ورحمته؛ الذي ينظر إلى إسعاد البشر أولا وإنقاذهم من الضلال، حتى لو أنفقلتحقيق ذلك المليارات. ولا ينظر إلى جيوب الناس وإنما إلى قلوبهم وإلى هدايتها للطريق القويم. وسوف يبقى العالم أجمع في وسط هذا الجحيم، وهذه النيران التي لا تهدأ حتى تعم رحمة الإسلام في ظل خلافة الإسلام... نسأله تعالى أن يكرم البشرية بنور الإسلام وعدالة وهداية الإسلام قريبا بإذن الله.
بقلم: الأستاذ حمد طبيب – بيت المقدس
رأيك في الموضوع