لم يتفاجأ الشارع في السودان بالتشكيل الوزاري الجديد الذي أعلنته الحكومة في 10 أيلول/سبتمبر 2018م، هكذا ظلت تدور ساقية الإنقاذ، تشكيل يتبعه تشكيل وتعديل وتقليص... وما من أزمة إلا وأعقبها تشكيل وزاري تحاول الحكومة من خلاله إشغال الناس لصرف النظر عن هذه الأزمات المتلاحقة التي حلت بهم، جراء تطبيق نظام يترنح تحت وطأة لعنات الأمة الغاضبة، فهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. فقد أورد موقع السودان اليوم الإلكتروني استطلاعاً للرأي، جاء فيه (هل ستشهد البلاد انفراجاً للأزمة الاقتصادية الحالية بعد حل حكومة بكري؟)، فكانت النتيجة 76% (لا)، فيا لها من نتيجة!!
إن الأزمة السياسية الحالية قد بلغت ذروتها؛ إذ البلاد تعيش أزمة اقتصادية خانقة، لا قبل لأهل البلد بتحمل تبعاتها، وينتقلون من أزمة إلى أخرى، من شح في دقيق الخبز، والوقود، وغاز الطبخ، وموجة غلاء طاحن، وانخفاض في العملة المحلية، وأخيراً أزمة سيولة حادة، حجبت أموال الناس عن التصرف فيها.
كما أن هناك احتقاناً سياسياً، وانفلاتاً أمنياً، طال معظم نواحي البلاد، وحرباً أهلية مستعرة في العديد من الولايات؛ زادت المساحة الخارجة عن سلطة الدولة، وما زال النظام يتعامل مع هذه الأزمات بالسياسات نفسها، والأساليب القديمة، التي أنتجت الأزمة في المكان الأول، ولذلك بات الإحساس السائد لدى الشارع العام هو أن استمرار الحال على ما هو عليه يهدد البلاد بخطر الانهيار والتشظي.
إن الأنظمة السياسية والاقتصادية المطبقة في السودان تتأرجح بين موروثات الاستعمار البريطاني؛ من دستور حكم واقتصادٍ مُختلطٍ، ثُمّ التطبيق الاشتراكي، ثُمّ سياسة التحرير ثم سياسة التّمكين والنّهج الاحترازي المتعسف بالإعدامات والاعتقالات بسبب العُملة، والطريقة المُتعسِّفة التي تمّت بها تبديل العُملة في العام 1991م، وأخيراً ما يحدث من قرارات وتصرفات البنوك بعدم توفير السُّيولة لأصحابها. والحكومة ليس لها حل مبدئي منبثق عن وعي سياسي واضح، بل باتت تغرق في مستنقع الأزمات، وتنتقل من أزمة إلى أخرى، حتى وصل الحال إلى ما هو عليه.
إن استمرار السياسات القديمة، واستنساخ هذه السياسات، التي لا بد أن تسير الحكومة عليها، إذ لا خيار لها دونها، لأنها إملاءات استعمارية من أسيادهم الأمريكان، وصندوق النقد الدولي، حسب ما رُسم من خطط للتنفيذ على أيدي هؤلاء الرويبضات الذين يذيقون شعوبهم الويلات والعذاب، كل هذا لكي ترضى عنهم أمريكا، مقابل الاستمرار في الكراسي المهترئة، لتنفيذ مزيد من السياسات والمخططات التي تهدف إلى مزيد من العلمنة والتمزيق. أما كيف يعيش الناس، وكيف يساس أمرهم، فليس في جعبتها شيء من هذا القبيل.
وحتى تتمكن الحكومة من تنفيذ المزيد من توجيهات أسيادها، وتنفيذ روشتات صندوق النقد الدولي، وإمعاناً في الاستخفاف بعقول الناس... أخرجت لنا من جرابها البالي، تشكيلاً وزارياً جديداً، لتغيّر جلدها حتى توهم الناس أنه تغيير لمعالجة المشاكل وانتشال العباد والبلاد من هذا الانزلاق الخطير، فجاءت بتغيير شكلي يقوم على أساس الرهان على أن الزمن سيحل المشاكل، بينما الأزمة وصلت درجة يستحيل معها توفير أي مهلة زمنية!
فهذا التشكيل الوزاري الجديد لن يقود إلى إصلاح، وإنما هو مواصلة لمشوار الفشل الطويل جداً، ويبدو أن الحكومة حرصت على تشكيل يوصلها لتحقيق مآرب محددة، فهذه الحكومة سيكون عمرها عاماً وبضعة أشهر، مثل عمر الحكومة التي تم حلها، وهو مأزق جديد تقع فيه الحكومة، فهذا التشكيل يفضح تماماً عجزها عن التفكير خارج الصندوق، وهو يدور في حلقة مفرغة، لا تريد كسرها، فهم في غيهم سادرون، ويقومون بألاعيب سحرية ليسوّقوا رئيسهم للانتخابات المقبلة في العام 2020.
مما لا شك فيه أن الحكومة من جانبها مدركة لأبعاد الأزمة، ولكنها ليست على استعداد لدفع فاتورة العلاج الجذري، ما دامت تلك الفاتورة تعني إنهاء الظلم والاستبداد، وتسليم الحكم لثلة واعية تدرك كيف تدار البوصلة، ومن أي اتجاه، وعلى أي مرتكز ترتكز، فهذا يعني محاسبة الظلمة الفجرة الذين أداروا ظهورهم عن وحي رب العالمين، وركنوا إلى العدو الكافر المستعمر يأخذون نظامه الظالم الذي أوصلنا إلى ما وصلنا إليه ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾، ظناً منهم أنه سيرضى عنهم ولكن هيهات ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾، ولكن المرض الذي في قلوبهم، هو الذي جعلهم يخشون الكافر ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾.
وهناك غشاوة تحيط بالحكومة، تجعلها تتعامل مع الأزمة عبر مسكنات، لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تجدي نفعاً، لكن حتى هذا الخيار نفسه اصطدم بحقيقتين مهمتين: الأولى، الوعي الواضح عند الأمة التي ما عادت تنطلي عليها الأكاذيب والتضليل، وهي تتطلع نحو التغيير المنشود، فلم ولن تنخدع بتغيير جلد الأفعى التي لا أمان لها، فتغيير جلدها لا يقلل من خطرها ولسعاتها القاتلة المسمومة، فتظل الأفعى أفعى مهما بدلت من جلدها، أما الحقيقة الثانية: فحزب واعٍ، وعلى بصيرة من أمره، يحمل في الأمة وعياً ووحياً بإرادة جامحة، ورغبة في التغيير جارفة، يبصّر الأمة لما هو فرض ووعد من رب العالمين، من استئناف للحياة الإسلامية، بإقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة.
فالتغيير الحقيقي فرض ووعد، وهو ليس تغيير الأشكال أو تبديل الحقائب الدستورية، ولا هو أن يستوزر المستوزرون، على كراسي السيادة المزعومة، بل هو تغيير لما فيه خير الدنيا والآخرة، تغيير على أساس منهج الحبيب المصطفى e، يحمله حزب التحرير الذي يدرك ما يريد، وكيف يصل إلى ما يريد، بوعي كامل وفهم شامل للعقيدة الإسلامية وما ينبثق عنها من أنظمة حياة، فهو يحمل للأمة مشروعها الكامل على أساس الإسلام العظيم، فهو حامل لواء التغيير الجذري الشامل، مدرك طريق المسير، مبصرٌ نقطة الوصول، فهو طوق نجاة يلوح بوعد الله وبشرى رسول الله e خلافة عز وشرف وهذا كائن قريباً بإذن الله.
بقلم: الأستاذ سليمان الدسيس
عضو مجلس ولاية السودان
رأيك في الموضوع