في أجواء المفاوضات بين طرفي النزاع في جنوب السودان، جرت في الخرطوم مباحثات سودانية بولندية، برئاسة وزيري خارجية البلدين... حيث قال وزير الخارجية السوداني الدرديري محمد أحمد (إن الجانبين تباحثا حول القضايا الإقليمية والدولية، وأشار إلى حرص السودان على التعاون والتنسيق مع بولندا باعتبارها رئيسة لجنة العقوبات في مجلس الأمن، بجانب انضمامها إلى شركاء الإيقاد، واهتمامها بفض النزاعات، مما يفتح المجال واسعاً، للتنسيق معها خاصة في مسألة دولة جنوب السودان). (سودان تربيون السبت 21 تموز/يوليو 2018م)، وأبدت الحكومة سعادتها بهذه الزيارة، وتبرعت على لسان الوزير، بأن يكون السودان مدخلاً مهماً، ومعبراً مفتوحاً، للكفار المستعمرين إلى قارة إفريقيا، الغنية بالثروات، حيث قال الدرديري: (سعدنا بهذه الزيارة... كأول زيارة للوزير البولندي لإفريقيا في إطار سياسة دولته الرامية للتوجه نحو أفريقيا لإيجاد مداخل لاقتصادياتها النامية)، وقال في تصريح صحفي إن علاقات السودان مع بولندا "شهدت تطوراً مضطرداً ونحن عازمون على إعادتها إلى مجدها خاصة في ظل توجه بولندا نحو أفريقيا التي يعتبر السودان بوابتها". (العربي الجديد 21 تموز/يوليو 2018). وقال أيضاً (إن بولندا لن تجد أفضل من السودان لدعم توجهها نحو القارة الأفريقية بحكم موقعه الجغرافي) (السودان اليوم 22/07/2018). بدوره (أكد وزير الخارجية البولندي "جاسيك تشابوتوفيتش" (أن بلاده تعد السودان مرتكزاً أساسيا لانطلاقتها نحو أفريقيا)... فتعساً لهكذا تفكير، إذ يفتح حكام السودان بلاد المسلمين على مصاريعها، لأسيادهم، وللتابعين، وتابعي التابعين، ليرتعوا فيها، ويهلكوا الحرث والنسل كعادة الرأسماليين، كلما دخلوا بلداً أفسدوها، واتخذوا من أهلها خدماً لمصالحهم فحسب!
إن هذه الزيارة رغم عدم إعلان الجانبين، السوداني والبولندي، نص البيان الختامي المشترك في الإعلام والرأي العام، إلا أنه، ومن خلال بعض الحقائق، يمكن إجمال مغزى الزيارة بأنه استعجال لتنفيذ خطة الارتباط الأمريكية، أو ما يعرف بالمسارات الخمسة، التي وضعتها واشنطن لرفع العقوبات عن الخرطوم، وتشمل تحسين دخول المساعدات الإنسانية - المساعدة في عملية السلام بجنوب السودان - وقف القتال في "إقليم دارفور ومنطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان" - التعاون مع وكالات الاستخبارات الأمريكية في محاربة الإسلام - بجانب التخلي عن التعاون مع كوريا الشمالية.
إن جمهورية بولندا، التي زار وزير خارجيتها السودان لأول مرة، منذ خمسين عاماً،هي في حقيقتها دويلة ليست ذات وزن اقتصادي يعتمد عليها لفك الأزمات الاقتصادية المتلاحقة في السودان، وتخفيض نسبة التضخم الذي بلغ 63.87 بالمئة، ولا أثر لها في القضايا الدولية، ولا الإقليمية؛ التي تقع في المسرح الدولي، إذ إنها تابعة في سياستها لأمريكا، فمنذ انفراط عقد الاتحاد السوفيتي سنة 1991م، تبخرت أيديولوجيته، وتشتتت بلدان المنظومة الشيوعية (حلف وارسو) شذر مذر، ومن بينها بولندا، التي انضمت هي وأخواتها؛ الدول المعروفة باسم دول "فيشغراد" إلى حلف الناتو، ولم يبق لروسيا أية دولة من دول المنظومة الاشتراكية السابقة تتحالف معها... حيث اعترفت أمريكا، التي تفردت بالعالم منذئذٍ، وشجعت هذه الدول، وبخاصة بولندا، في الانضمام للاتحاد الأوروبي في العام 2004م، ومن يومها باتت بولندا وأخواتها ضمن الدول التي توالي أمريكا، فتعمل لحساب أمريكا داخل الاتحاد الأوروبي، لنخره من الداخل، في سبيل لجم أوروبا وروسيا معاً... فمثلاً ندد ترامب مرات عدة، بمشروع أنبوب الغاز (نور ستريم) الذي سيربط روسيا بألمانيا، وطالبها بالتخلي عنه. وهذا المشروع يعارضه بعض الأوروبيين... إذ تعتبر بولندا أن أوروبا ليست بحاجة إليه. فقال وزير خارجيتها جاسيك شابوتوفيتش: "إن نور ستريم هو نموذج الدول الأوروبية التي تقدم أموالا إلى روسيا وتعطيها وسائل يمكن استخدامها ضد أمن بولندا". (فرانس برس 11/07/2018م) فهو يتكلم بلسان ترامب لصالح أمريكا في عرقلة المشاريع الأوروبية والروسية... فبعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أخذ ترامب يعتمد، في محاولاته تطويق ألمانيا، وإضعاف قيادتها الأوروبية بشكل متزايد، على دول أوروبا الشرقية وبخاصة بولندا.
هذه الزيارة، بحسب وزيري خارجية البلدين، تتعلق بالتوجه نحو أفريقيا، وحيث إن أفريقيا في جدول المباحثات بين الجانبين، فيمكن إشراك بولندا ضمن الأدوات المساعدة في تنفيذ المشاريع الأمريكية المستعصية، وبخاصة مسألة جنوب السودان التي يستضيف السودان، مع شركاء الإيقاد، جولات المفاوضات المتعثرة والمعقدة بشأنها منذ ثلاثة أسابيع، (... وأشار - الدرديري - إلى حرص السودان على التعاون والتنسيق مع بولندا... بجانب انضمامها إلى شركاء الإيقاد، واهتمامها بفض النزاعات، مما يفتح المجال واسعا للتنسيق معها، خاصة في مسألة دولة جنوب السودان). (سودان تربيون السبت 21 تموز/يوليو 2018م).. إن أمريكا شديدة الحرص على دخول إفريقيا عبر بوابات مختلفة، والسودان واحدة منها، والوزيرانمريكا لا تتوانى في استخدام كل الأدوات في سبيلذلك يحرص الوزي يرددان ما يقوله الأمريكان، فالكلام عن أهمية إفريقيا، والرغبة الجامحة في الوصول إلى ثرواتها، قد سبقهم إليه سكوت غرايشن، المبعوث الأمريكي السابق للسودان، في مقابلة مع صحيفة الشرق الأوسط، (العدد 11692) في سؤال عن اهتمام أمريكا بالسودان، حيث قال: (نحن في السودان على المدى البعيد، مثلما نهتم بأفريقيا على المدى البعيد. نحن نفهم أن أفريقيا قارة مهمة جداً، وعندما ترى قضايا أفريقيا، السودان فقط البداية). هذا من ناحية محاولات تركيز النفوذ الأمريكي المتعثرة في أفريقيا وبخاصة جنوب السودان.
أما في سبيل المحاولات الجادة، والمساعي التي تقودها حكومة السودان للالتصاق بواشنطن، لنيل رضاها، ومسح اسمها من القائمة السوداء، والتخفيف من ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية للبشير، باعتبار بولندا رئيسة لجنة العقوبات في مجلس الأمن، أو شطب الدعوى المرفوعة ضد البشير... فإن زيارة الوزير البولندي في هذا التوقيت بالذات، فيه شق يتعلق بهذا الجانب... (ورحبت وزارة الخارجية بالزيارة المرتقبة كما أثنت على التفاهمات الجارية في المنظمات الدولية، خاصة ما يلي قضايا السودان في مجلس الأمن الدولي). "سودان تربيون 18/07/2018م".
وباسم (الإرهاب)، فإن مؤامرات بولندا ضد الإسلام، والمسلمين، لا تخفى على أحد، فقد خصصت صحيفة "هآرتس" العبرية تقريراً خاصاً للعلاقات بين حكومة نتنياهو وحكومات دول "فيشغراد" ومن بينها بولندا، (نُشرت بعض من مقتطفاته في موقع العربي الجديد في 9 تموز/يوليو 2018م)، حيث كشف التقرير أن حكومة نتنياهو تلتقي مع هذه الدول في التحريض ضد الإسلام... مقابل تسهيل وفتح الطريق أمام هذه الدول إلى واشنطن. إن الحكومتين السودانية والبولندية، تهتمان بهذا الملف منذ وقت مبكر، (أجرى مسؤولون من وزارتي الخارجية السودانية والبولندية، بالخرطوم يوم الأربعاء 4/10/2017م، مباحثات حول قضايا مكافحة (الإرهاب)... وبحث وزير الدولة بالخارجية السودانية حامد ممتاز، ونائبة وزير الخارجية البولندية جوانا فيرونيكا، هذه القضايا إلى جانب جهود الحكومة لدعم الاستقرار في جنوب السودان) "سودان تربيون"
ولا يفوتنا أن نذكر القارئ بالمتابعة اللصيقة من الجانب الأمريكي، في مراقبة مدى تنفيذ حكومة السودان لخطة الارتباط الأمريكية هذه، وأنه أمر لا مفر منه، بحيث تلاحق أمريكا حكومة السودان من حين لآخر، حتى تكتمل الخطة الأمريكية بأركانها الخمسة، (قالت وزارة الخارجية السودانية، إن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبينو، بعث الأحد 22/07/2018م برسالة خطية لنظيره السوداني الدرديري محمد أحمد... وبحسب تصريح قريب الله خضر فإن الوزير الأمريكي بومبينو، أشار في رسالته إلى نجاح خطة الارتباط وتحقيقها نتائج إيجابية خاصةً في مجالات مكافحة (الإرهاب)...) "سودان تربيون 23 تموز/يوليو 2018". فلا يستبعد أن تلعب بولندا دوراً مساعدا لتحقيق هذه الملفات لصالح أمريكا...
فلماذا تدير هذه الحكومات سياستها الخارجية باتباع أمريكا وأدواتها وتوابعها، وتتسابق في تنفيذ مطالبها؟ ذلك لأن هذه الحكومات لا تقوم على أساس الإسلام، فهي دويلات وطنية مسجونة بقيود دولية ومواثيق أممية، ولا يمكن الفكاك منها إلا عبر الخلافة التي تجعل القضية السياسية للأمة هي الإسلام في قوة شخصية دولته، وإحسان تطبيق أحكامه، والدأب على حمل دعوته إلى العالم، فالأمة الإسلامية لم تخلق للتودد للعالم واتباع المنظومة التي تتآمر على البشرية وتنهب خيراتها وثرواتها، لا، إذ إن حمل الدعوة الإسلامية هو المحور الذي تدور حوله السياسة الخارجية لدولة الخلافة، وعلى أساسها تبنى علاقة الدولة بجميع الدول، وإن هذه العلاقات الخارجية لا يرعاها وزير ولا غيره، إنما يباشرها الخليفة بنفسه عملياً، ولا يجوز لأي فرد، أو حزب، أو كتلة، أو جماعة، أن تكون لهم علاقة بأية دولة من الدول الأجنبية مطلقاً. والعلاقة بالدول محصورة بالدولة وحدها، لأن لها وحدها حق رعاية شؤون الأمة عملياً.
لمثل هذا فليعمل العاملون، فإنه خير الدنيا والآخرة.
بقلم: الأستاذ يعقوب إبراهيم (أبو إبراهيم) – الخرطوم
رأيك في الموضوع