اندلعت قبل أسابيع موجة غضب كبيرة في محافظة البصرة جنوب العراق، شرارتها كانت نقص الكهرباء وقلة الخدمات والبطالة وامتدت لمدن الجنوب الأخرى إلى النجف وكربلاء وميسان وواسط والمثنى والقادسية وذي قار وبابل، وامتدت أخيراً إلى العاصمة بغداد... اللافت للنظر بهذه الاحتجاجات التي تحولت لانتفاضة جماهيرية كبيرة حدوثها في محافظات الجنوب ذات الأغلبية الشيعية رغم أن من يسيطر على مقاليد الحكم في البلد هي الأحزاب الشيعية، بمعنى آخر رفض هذه الجماهير لهذه الأحزاب وبكل العناوين والخلفيات الدينية والطائفية، رافق هذه الاحتجاجات اقتحام وحرق مقرات هذه الأحزاب في أكثر من مكان لتعطي دلالة على الرفض الكبير الذي تحمله الجماهير بدواخلها لهذه الأحزاب، ثم إن هذه الهبة الجماهيرية اتسمت بعدم وجود مركز قيادي لها حتى اللحظة مما يعني بأن الناس لديها من الطاقات الكبيرة ونقمة عظيمة تجاه الحكومة لكنها لا تنتظر أحداً لتفجير هذه الطاقات، فسقوط القتلى والجرحى لم يثنِ هذه الجموع عن مواصلة المطالبة بحقوقها، بل زادها غضبا وقوة، وهو ما لمسناه بطلب قيادات القوى الأمنية بعدم التصدي للمتظاهرين خشية ردود أفعالهم الغاضبة التي طوّرت شعاراتها ورفعت من سقف مطالبها إلى أخرى لا يمكن اعتبارها "مطالب خدمية"، على شاكلة الدعوات لإلغاء مجالس المحافظات وإخراج مكاتب الأحزاب والفصائل المسلحة، التي أُحرق منها حتى الآن 19 مكتباً ومقراً، إلى خارج المدن والأحياء السكنية، إضافة إلى المطالبة بالانتقال إلى النظام الرئاسي وإلغاء "الخدمة الجهادية" للسياسيين ومرتبات "مخيم رفحاء السعودي" وإقالة مسؤولين وسياسيين وإحالتهم إلى القضاء، مروراً بحرق صور المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي والخميني، التي تنتشر بكثرة في جنوب البلاد وإلغاء المحاصصة الطائفية...
أسفرت هذه الاحتجاجات حتى الآن عن مقتل 18 مدنياً بينهم ثلاثة فتيان دون سن الثامنة عشر، وإصابة 611 بجروح ناجمة عن عيارات نارية وقنابل غاز أو بسبب الضرب المبرح بالهراوات من الأمن العراقي، أو بالدهس كما في حادثة مدينة السماوة عاصمة محافظة المثنى الأسبوع الماضي. فيما بلغ عدد المعتقلين لغاية مساء السبت الماضي نحو 900 معتقل، تم إطلاق سراح نحو 600 منهم، فيما أطلق سراح 11 شخصاً من أصل 40 تم اختطافهم من قبل جماعات مسلحة في الجنوب يُعتقد أنها تابعة لأحزاب طائفية. حيث كشف وزير عراقي في بغداد، لـ"العربي الجديد"، أن رئيس الوزراء حيدر العبادي، فوجئ بالاحتجاجات وقوتها، وكان يتوقع في البداية أنها "حركة أخرى من زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر للضغط عليه للاستقالة من حزب الدعوة، أو أنها كتظاهرات كل صيف في البصرة". وقال الوزير، وهو عضو في خلية الأزمة التي شكّلها العبادي للنظر في مطالب متظاهري البصرة، إن "اتساع الاحتجاجات بهذا الشكل ومهاجمة المتظاهرين مقار الأحزاب وسقوط قتلى وجرحى ودخول زعماء القبائل على خط دعمها ومن ثم تأييد المرجع علي السيستاني لها بشكل واضح في أول أيامها، كلها تطورات أكدت أن الموضوع أكثر من كونه عابراً"، لافتاً إلى أن "رئيس الوزراء فشل في الوصول إلى قادة أو محركي هذه التظاهرات، ويبدو أن هذا عامل قوة لها"، مضيفاً: "يمكن القول إن فيسبوك هو محرك وموجّه للناس، ولهذا تم إغلاقه مع تويتر في العراق تبعه إغلاق الإنترنت بشكل كامل، لكن العراقيين استفادوا من بعض برامج فك الحجب أو تجاوزها، ولم تنفع إجراءات حجب هذين الموقعين".
الحكومة من جانبها وعلى لسان رئيس وزرائها حيدر العبادي أعلنت بشكل متتالٍ عن حزمة مشاريع خدمية وإصلاحات إدارية وتوفير فرص عمل للبصرة والمثنى وذي قار والنجف ومناطق أخرى، عدا عن الإعلان عن تخصيص نحو 5 تريليونات دينار عراقي (نحو 4 مليارات و200 مليون دولار) حتى الآن، منها 3 تريليونات ونصف التريليون للبصرة والأخرى المتبقية للمثنى وذي قار والنجف، عبارة عن إكمال مشاريع متوقفة منذ عام 2014 تتعلق بالماء والكهرباء، إضافة إلى 800 مليار دينار أعلن عنها سابقاً لمصلحة مشروع معالجة أزمة السكن في البلاد. وحول ذلك، قال الشيخ سعد الربيعي، أحد شيوخ قبيلة ربيعة جنوبي العراق، لـ"العربي الجديد"، إن "التظاهرات ستستمر بسبب انعدام الثقة"، مضيفاً "العبادي أو أي مسؤول آخر في العراق اليوم لو خرج واضعاً يده على القرآن الكريم والأخرى على ستار الكعبة، ما صدقهم أحد بقسمهم ولا بوعودهم، فالتجربة معهم مريرة للغاية خلال العقد ونصف العقد الماضي، والمشكلة واضحة وهي أن وعودهم في انتخابات 2006 هي نفسها في انتخابات 2018، من توفير الماء والكهرباء والأمن والوظائف وإلغاء المحاصصة الطائفية، لكن الناس لم يحصلوا على شيء بل بالعكس تراجع لديهم كل شيء".
هذه الانتفاضةأثبتتأولاًفشلأمريكا ومشروعها في العراق الذي وعدت بأن تجعله نموذحاً يحتذى به في الشرق الأوسط! فلا رفاهية ولا ديمقراطية ولا أمن ولا أمان ولا ماء ولا كهرباء ولا فرص للعمل، فضلاً عن انعدام أبسط مقومات العيش الكريم مع وفرة ثروات البلد! فماذا ستقول أمريكا بعد عقد ونصف من الاحتلال وهذا موقفها ضد كل الانتفاضات والاحتجاجات الشعبية التي رافقت أيام الاحتلال وحتى اللحظة؟! ثم فضحت هذه الانتفاضة إيران وحلفاءها والأحزاب التابعة لها والتي تغولت في البلد بفعل سياسة المحتل الأمريكي وبضوء أخضر منه لأنها ضد حكومتها العميلة في بغداد وضد أحزابها التي تدين بالولاء لها، ولأنها تعتبر العراق حديقتها الخلفية وبوابتها للعالم العربي، وقد سمعت بملء أذنيها هتافات المتظاهرين، وشاهدت بعينها النار تضرم في مقرات أتباعها وأجهزتها. وأخيرا فضحت هذه الانتفاضة الأحزاب الحاكمة جميعها بما فيها السنية، لأن أي حراك شعبي ضد الفساد والفشل يشملها جميعا، وهم جميعا يخشون ثورة الشعب يوما ما، بل هم مستيقنون من ذلك، ولكن طمعهم فيما بين أيديهم يغريهم بالبقاء في عملية سياسية بائسة سحقت الشعب سحقا وصيرته إلى خراب ودمار وعلى جميع المستويات.
وحتى تؤتي الانتفاضة ثمرتها وحتى لا تذهب التضحيات سدى يجب أن يقوم التغيير على تغيير الأفكار والمفاهيم أولاً، ثم النظم والقوانين ثانيًا، وهذا معروف في سنن التغيير التي حدثت في تاريخ الأمم؛ فالرسول e عندما بعثه الله تعالى عمل على تغيير الأفكار والمفاهيم التي كانت سائدة في الجاهلية، وأحل مكانها أفكار ومفاهيم الإسلام، ثم أقام دولة الإسلام التي طبقت أحكام الإسلام وقوانينه على الناس. فالتغيير والارتقاء لا تنزل به الملائكة جاهزاً، ولا يتم إلا بتضحية المسلمين تحت قيادة واعية مخلصة تنقاد لأمر الله وتقود به مع الثبات والصبر واتخاذ القضية على أنها قضية مصيرية، وإن إقامة الدول وتغيير الأنظمة العميلة ليست مسألة مستحيلة، بل هي رغم مخاطرها بيد الشعوب المهمشة إن قصدت وتمت قيادتها عن وعي وثبات وإخلاص، فقد أكدت الأحداث في تونس ومصر وسوريا صدق معادلة حركة الجماهير الثائرة وفاعليتها، ولو تركت تعبر عن نفسها لفتحت وضعاً جديداً متسلسلاً يعم العالم الإسلامي، وقد ينتج عنه مرحلة جديدة تغير مجرى التاريخ
بقلم: الأستاذ علي البدري
رأيك في الموضوع