في هذا المقال سأستعرض بعض الأحداث والأعمال السياسية المباشرة وغير المباشرة المتعلقة بتأثير أمريكا في الانتخابات التركية، والحديث بعُمق عن الأبعاد السياسية المتعلقة في تركيا من الجانب الواقعي (وصف واقع)، لذلك أتمنى من القارئ الكريم أن يقرأ هذه السطور برويّة تامّة ولا يُحكّم مشاعره قبل عقله.
قبل أيّام أعلنت دائرة الانتخابات التركية فوز أردوغان برئاسة الجمهورية بتحالفه مع الحزب القومي بنسبة 52,4%. بينما توزعت النسب على المرشحين الخمسة الآخرين، وكان أعلاهم مرشح حزب الشعب محرم إنجي بنسبة 30,7%، وهذه النتائج تعني أنّ الرئيس التركي استطاع حسم صراع الانتخابات من الجولة الأولى وهذا مؤشّر قوّة لا بد أن تكون له دعائم على الأرض ومسبّبات أفضت إلى هذه النتيجة، منها دور أمريكا في دعم أردوغان من جانبين، مباشر، وغير مباشر.
أمّا الجانب المباشر فهُناك حدثان؛ الأوّل متعلّق بدعم أمريكا لتركيا بطائرات F35، فقد دعم الرئيس الأمريكي ترامب تركيا قُبيل الانتخابات التركية بأيّام قليلة - وهذا توقيت مهم ودقيق - بعقد صفقة عسكرية يتم بموجبها تسليم تركيا أحدث طائرة مقاتلة أمريكية في العالم من نوع "F35" التي لا يمتلكها إلّا كيان يهود في المنطقة، رغم أنها كانت هنالك أصوات من الوسط السياسي في أمريكا معارضة للصفقة خاصة من الكونغرس، ومع ذلك تجاوز ترامب وإدارته هذه الأصوات على عظمها وثقلها في السياسة الأمريكية ونفّذ الصفقة، مما أدّى لزيادة شعبية الرئيس التركي داخليًا رُغم وجود تصريحات صحفية تؤكد ضعف وجفاء العلاقة بين الرئيس التركي وأمريكا إلّا أن أردوغان استطاع أن يأتي بالدعم لبلاده من الدول العظمى وفي توقيت الزخم الانتخابي بأحدث طائرة أمريكية مقاتلة. (الأربعاء، 20 حزيران/يونيو أعلنت تركيا، أنها ستستلم الدفعة الأولى من مقاتلات "F-35" الأمريكية الصنع، غدا الخميس، جاء ذلك في مقابلة أجرتها محطة "تي جي آر تي" التركية، مع المتحدث باسم الحكومة التركية، بكر بوزداغ).
أمّا الثاني فهو متعلّق بأحداث سوريا وخاصة منطقة "منبج" التي كانت تُسيطر عليها القوات الكردية التابعة لأمريكا، فمع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في تركيا بدأ الحديث عن منبج وكيفية دخولها من قبل الجيش التركي حتى حان وقت دخولها قُبيل الانتخابات بيومين أو ثلاثة بتنسيق تام بين القوات التركية وواشنطن، وسيطر الجيش التركي مع القوات الأمريكية على المدينة بدون قتال ووضع نقاط مراقبة مما يعني أنّ أمريكا أمرت القوات الكردية التابعة لها بالانسحاب الفوري من منبج والسماح لدخول القوات التركية المدينة لتحل محلّها وهذا ما حصل فعلاً، وتأثير هذا العمل العسكري ذي الأبعاد السياسية في الداخل التركي لإبراز أردوغان كبطل قومي منع إنشاء كيان كردي محاذٍ لتركيا وعلوّ كعب العرق التركي على الكردي داخل تركيا وعزل الأكراد سياسيا من منافسة أردوغان، بالإضافة لزيادة شعبية أردوغان من الناحية القومية (وكالات 5/6/2018: نجحت أنقرة أمس في الحصول على موافقة واشنطن على "خريطة طريق" تضمن لها السيطرة على مدينة منبج شمال سوريا، بعد انسحاب القوات الكردية منها، تزامن ذلك مع انسحاب قوات النظام والروس من مدينة تل رفعت لتحلّ بدلاً منها القوات التركية).
وهذه المعطيات السياسية تُبيّن أنّ أمريكا كانت معنية بفوز أردوغان بل وقدّمت الدعم له. هذا من الجانب المباشر.
أمّا الجانب غير المباشر فدعم واشنطن لأردوغان كان في تعديل شكل النظام السياسي التركي وتحويله للنظام الرئاسي بدلاً من النظام البرلماني، وهنا لا بد من تفصيل لتبيان موضع الدعم، فأوروبا، خاصة فرنسا وبريطانيا وألمانيا، مُجمعة على الاحتكام للنظام البرلماني الذي كان سائداً في تركيا مع مجيء عميل الإنجليز مصطفى كمال بعد إسقاط دولة الخلافة العثمانية، وهذا النظام يجعل رئيس الحكومة رئيسا على البلاد مع صلاحيات ضئيلة وخفيفة تجاه الجيش والقضاء وهذا عين ما عانى منه أردوغان طوال سنوات حُكمه من مؤسستي القضاء والجيش والذي حاول الأخير الانقلاب عليه عدّة مرات كان آخرها في عام 2016، ولذلك جاء أردوغان بتوصيات من أمريكا بتحويل شكل نظام الحكم للنظام الرئاسي الأمريكي ليكون أول نظام رئاسي في أوروبا، وهذا النظام تحتكم له أمريكا وتخالف به أوروبا، ومن مُميّزاته أنّ الرئيس صاحب صلاحيات شبه مطلقة، منها التحكّم في القضاء والجيش، بالإضافة لعدم وجود منصب رئيس الحكومة لأنّ الرئيس الفعلي للبلاد هو رئيس الجمهورية حصراً، ومن هنا يسهل على الرئيس التركي ضرب معارضيه وخصومه السياسيين الموجودين في مفاصل الدولة الحساسة نتيجة تطبيق النظام الرئاسي (الأمريكي) والتخلّي عن النظام البرلماني (الأوروبي)، وهذا يعني السير في ركاب أمريكا وتنفيذ مشاريعها في المنطقة.
وطالما أنّ أردوغان يسير مع التوجه الأمريكي فهو من الخاسرين والخسارة الكبرى هي عند الله الدّيان، حيث الحساب والعقاب يوم القيامة، فمع هذه الخيانات التي سيحاسب عليها أردوغان عند الله (من احتواء للضباط المنشقين من الجيش السوري ومنعهم من الاتصال بالداخل السوري، ثم احتواء ثوار سوريا وإشغالهم بالقتال فيما بينهم وسحبهم للقتال في جبهات غير مؤثرة لاستنزافهم وللحفاظ على النظام السوري وحمايته والتعاون مع روسيا وإيران بالإضافة لارتفاع نسبة التبادل التجاري مع كيان يهود)، بالإضافة لكل ذلك فقد قضى نحو 16 عاماً في الحكم وهو يطبق نظام الكفر العلماني ويدافع عنه ويروج له بكل قوة كما فعل عندما ذهب إلى مصر في أيلول عام 2011 ليقول قولته المنكرة أن أفضل نظام لمصر وللمنطقة هو النظام العلماني، وقد نصح وأقنع الإخوان بالعلمانية على حدّ قوله!
وعندما قامت جماعة الإنجليز بمحاولة الانقلاب الفاشلة ضده يوم 15/7/2016 وخرج الناس ضد الانقلابيين بالتكبير والتهليل والصلاة في المساجد مما يدل على توجههم الإسلامي، رفض أردوغان هذا المنظر ودعا على الفور إلى "مسيرة الديمقراطية" للتأكيد على النظام العلماني وعدم التوجه الإسلامي، وطلب من مؤيديه أن ينضموا لمسيرة الديمقراطية الثانية التي نظمها حزب الشعب الجمهوري (الكمالي) ليؤكد أن التضامن مع هذا الحزب حزب مصطفى كمال الذي حارب الإسلام أفضل من العودة إلى الإسلام!!
فأردوغان يصر على نظام الكفر العلماني ويحارب المخلصين الذين يعملون على تغيير هذا النظام وإقامة نظام الإسلام النهضوي الحضاري، وهكذا يستمر أردوغان في السير مع مشاريع الغرب وخاصة أمريكا، ولا ينفك عن أوامرها قيد أنملة، ومن هنا كانت ظاهرة أردوغان بحاجة لتمحيص وعُمق واستنارة في النظرة السياسية حتى لا يقع أبناء الأمة في فخاخه السياسية التي تهدف لتجميل صورة العلمانية القبيحة وتقديم النموذج التركي العلماني كطموح قدري لدى الجماهير الإسلامية مع استمرارية عزل الإسلام عن مناحي الحياة، وهذا خطر وانهزام حضاري قد يتمكّن من عقول ونفوس المسلمين، والأصل هو العمل على نبذ هذا النموذج العلماني الكفري المنبثق من عقيدة فصل الدين عن الحياة والعمل لتطبيق الإسلام باستئناف الحياة الإسلامية وإقامة دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، والتي هي الرهان الوحيد والحقيقي القادر على إنقاذ الأمة من الغرق، ولمثل هذا فليعمل العاملون.
بقلم: الأستاذ محمود أبو الفاتح
رأيك في الموضوع