يبدو أن اللقاء الذي نظمه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في العاصمة الفرنسية خلال الأسبوع الماضي بين فايز السراج رئيس حكومة "الوفاق" المعينة من المندوب السابق للأمم المتحدة "ليون"، والتي نصت عليها وثيقة الصخيرات، وبين المشير خليفة حفتر قائد "الجيش الوطني" الذي يتبع برلمان طبرق وحكومته، يبدو أنه قد أظهر جملة من المؤشرات تستحق الوقوف عندها:
1- أظهر هذا اللقاء وما نتج عنه أن وثيقة الصخيرات في مرحلة "الموت السريري"، ولذلك لا بد من دفنها وإيجاد ما يحل محلها مع بداية مدة المندوب الأممي الجديد غسان سلامة.
2- لقد كانت مبادرة السراج لحل الأزمة نوعاً من إيجاد هذا البديل في نظره هو ومن معه.
3- أظهر اللقاء أن هنالك تغييراً في الأسلوب الذي يتبعه الساسة المصريون في تعاطيهم مع الأزمة في ليبيا، فقد ظهر ذلك في تصريح المسؤول في الخارجية المصرية بقوله "إن القاهرة عملت جنباً إلى جنب مع باريس في كل مراحل المحادثات غير المباشرة".
4- اتضح من خلال ردود فعل بعض الدول الأوروبية على اللقاء أن الموقف الأوروبي تجاه الأزمة الليبية مصاب بالتصدع والانقسام، لوحظ ذلك في المؤتمر الصحفي الذي عقد بعد تلاوة بنود الاتفاق، وقد وجه أحد الصحفيين سؤالاً إلى الرئيس الفرنسي ماكرون حول تجاهل وحرمان الطرف الإيطالي ومصالحه في ليبيا من دور في هذا الاتفاق، مما دفع الرئيس الفرنسي للإجابة بحزم وانزعاج ظاهر من السائل بقوله "إننا أعلمنا الإيطاليين بموعد اللقاء، وإننا على اتصال برئيس الوزراء الإيطالي"، ولكن ورود السؤال وصيغة الإجابة يوحي بغضب إيطاليا من انعقاد هذا اللقاء. ثم جاء تأكيد هذا الحال بذهاب السراج مباشرة بعد اللقاء إلى إيطاليا قبل رجوعه إلى ليبيا، بل وقيامه بتوقيع اتفاقيات تعاون بين البحرية الإيطالية وسلاح خفر السواحل الليبية، والذي هو موضوع وسائل الإعلام المحلية هذه الأيام، وقيام حفتر بتهديد البحرية الإيطالية، بأنه أعطى الأوامر للسلاح الجوي الذي يتبعه والسلاح البحري الذي لديه بضرب أي قطعة بحرية تدخل المياه الإقليمية الليبية، ولا نريد أن نعطي لهذا التهديد حجماً، فهو ليس سوى فقاعة في الهواء. فلا يمكن أن يكون لهذا التهديد من معنى أو أفعال مصاحبة، وهو لا يزال يستقبل السلاح والعتاد من دولة يهود، كما نشرت صفحة الشرق الأوسط الإلكترونية نقلاً عن مصادر في كيان يهود ذكرتها.
فهذه الإنذارات فارغة لن يقدم عليها، وهي فقط لتسجيل مواقف إعلامية ليدغدغ بها مشاعر العامة من الناس. وجاء رد الإيطاليين فاضحاً له من أنه لا يوجد ما يستدعي القلق، وقولهم: نحن على تواصل مع المشير حفتر.
من المفيد القول بأن هذا التهديد من حفتر للقوات الإيطالية لن يكون له أثر مادي، غير أنه يفهم منه رسالة أمريكية لإيطاليا بأن لا تتعدى المسموح به في ساحة الصراع في ليبيا.
ومن الواضح أنه يوجد تناغم وتفاهم بين أمريكا وفرنسا في الخطوات القادمة، ونرجح حصول هذه "التفاهمات" أثناء زيارة الرئيس ترامب إلى فرنسا في 13 تموز/يوليو الفائت، وهذا اللقاء بين حفتر والسراج ضمن الخطوط العريضة المتفق عليها في الشأن الليبي، كما دل عليه تصريح المسؤول في الخارجية المصرية الذي مرّ ذكره بموازاة الاتفاق الذي جرى بينهما حول المسألة السورية. ومن الواضح أن الرئيس الفرنسي الجديد يختلف في أدائه السياسي في القضايا الدولية عن سلفه هولاند، فقد كان هولاند في العلن يظهر دعمه لاتفاق الصخيرات وفي السر يرسل الخبراء والمعدات لجيش حفتر، حتى افتضح أمره بسقوط مروحية له في بنغازي ومقتل ثلاثة عسكريين له فيها، وأيضاً رده المتعجرف والغاضب على السراج في زيارته له في آخر سنة 2016 عندما طالبه السراج بتسليح الجيش الليبي الذي يعمل على تكوينه، في قوله له "يبدو أنك لم تسمع بأن في بلدك جيشين، فأيهما تقصد؟".
ومع ما صدر عن الخارجية الأمريكية من أنها "ترحب باللقاء وبالإعلان الصادر عنه..." ووجود غسان سلامة المندوب الأممي إلى ليبيا في اللقاء يعطي اللقاء صفةً أممية، وأنه ليس عملاً بمعزل عن الأمم المتحدة، وقد صرح غسان سلامة على أثر هذا اللقاء بقوله "لقاء باريس إيجابي وسندعم الليبيين لإجراء انتخابات..."، وذكر "أن النتيجة الأكثر إيجابية هي أن الطرفين اتفقا على أن حل الأزمة الليبية سياسي فقط، وأنه لا توجد حلول عسكرية"، وذهب من فوره للقاء الأمين العام للأمم المتحدة، مما يدل على أن بعثة الأمم المتحدة مصاحبة لخطوات هذا اللقاء، وبعد فشل وثيقة الصخيرات وجدت بعثة الأمم المتحدة في هذا الإعلان "إعلان باريس" خارطة طريق للعمل على اعتبار أن موافقة حفتر عليها يعطيها فرصاً للنجاح.
غير أنه يلاحظ أن هذا التوافق المعلن بين أمريكا وفرنسا تجاه معالجة الأزمة في ليبيا أحدث استفزازاً لبقية الأطراف الدولية وخصوصاً الإيطاليون والإنجليز والألمان، كل منهم أبدى امتعاضه أو تقليله من قيمة هذا اللقاء. وهذا ما سبب إرباكاً لحركة فايز السراج فيما وافق عليه مع حفتر وبين ما تصر عليه الأطراف الأخرى من التمسك ببنود وثيقة الصخيرات التي تجعل أمر القيادات الأمنية العليا تحت تصرف المجلس الرئاسي الذي يرأسه السراج حالياً.
ولذلك يبدو أن اختراق "باريس" للوضع المتأزم في ليبيا لن يستطيع إنهاء حالة الصراع المحتدم في الداخل الليبي، وأيضاً هو ليس مؤشرا على توافق دولي حول الحل في ليبيا، وإنما يبدو عليه حالة من التمحور الجديد والظاهر حول الأزمة؛ الأمريكي الفرنسي في مقابل إيطاليا وألمانيا بدعم من بريطانيا، ولو كان خفياً، والذي يفهم من تعليقات بعض الصحف المعتبرة في لندن من إيحائها بأن هذه الخطوة "لقاء باريس" خطوة صغيرة في طريق الحل.
وما يهمنا نحن أهل البلاد وأبناءها هو التأكيد على أن التدخل الأجنبي في شؤون البلاد، سواء أكان هذا التدخل من دول منفردة أو تدخلاً جماعياً عبر مبعوث الأمم المتحدة، لا يزيد عن كونه خضوعاً لإرادة الأجنبي الذي لا يريد للبلاد خيراً. وهو من قبيل "من يستجير من النار بالرمضاء"! والله تعالى يحذرنا في محكم كتابه من ذلك بقوله سبحانه: ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾، وقول نبينا الكريم e: «لَا تَسْتَضِيئُواْ بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ».
بقلم: أحمد المهذب
رأيك في الموضوع