عندما سئل رئيس القوات الأمريكية في العراق ستيفن توسيند عن موعد بدء معركة استعادة الموصل قال: "يسهل أن تعرف متى تبدأ المعركة لكن يصعب توقع كيف ستنتهي، وهنا تكمن المعضلة". وهذا ما أكده مارك كيمت النائب السابق لرئيس القيادة المركزية للجيش الأمريكي في العراق حيث ذكر أن عملية استعادة الموصل هي رهينة عمل سياسي دؤوب لترتيبات ما بعد المعركة.بينما السفير جيمس جيفري نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي سابقا قال إن واشنطن تعلمت الدرس من تجربتها في العراق عام 2003، لذلك فهي تعاملت مع كل القوى هناك، سواء حكومة حيدر العبادي في بغداد أو حكومة كردستان في أربيل، لتوزيع العمل، وكذلك مع الجيش العراقي.
وبحسب مراقبين فإن أمام إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما سؤالاً ملحّاً حول طبيعة المجموعات المشاركة في المعركة، وآخر حول وضع استراتيجية واضحة لمرحلة ما بعد تحرير المدينة.
أما عن طبيعة المجموعات المشاركة في المعركة فإن أمريكا تدرك بعمق أن قيادة العبادي للعمليات العسكرية وإشراكه للحشد الشعبي في عملية استعادة الموصل سوف تؤدي إلى ارتكاب مجازر كثيرة ضد أهل الموصل لأنها تعرف مستوى تجذر الحقد الطائفي في نفوسهم والذي يخدم مخططاتها في تفتيت العراق، وهو الذي تأكدت منه عندما أوكلت لها عملية استعادة تكريت والأنبار والفلوجة وديالى وما أحدثت فيها من مجازر مروعة بحق المدنيين العزل لتزيد الحقد بين أبناء البلد الواحد وتجذره وتجعله القابلة المستعدة دائما لتوليد العمليات الثأرية. هذا ما جعل أمين عام مجلس العشائر العربية في العراق يحيى السنبل، يستنكر مشاركة قوات الحشد الشعبي الشيعية في المعركة، وقال إن ما قام به الحشد من انتهاكات لحقوق الإنسان في ديالى وتكريت وجرف الصخر وآخرها في الفلوجة، كلها تدعو للقلق، خاصة من قبل أبناء الحويجة، وتساءل لماذا تدخل قوات الحشد هذه المناطق رغم أن الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان العالمية أصدرت بيانات بشأنها، وجعلت ما ارتكبته في عدة أماكن يرقى إلى جرائم حرب؟
وأما مشاركة البشمركة في المعركة فجاء (بقرار أمريكي) والسماح لها بارتكاب مجازر جديدة في الموصل سيعمق كره العرب والتركمان للأكراد ويهيئ لأعمال انتقامية ضخمة ضد الأكراد الأبرياء لاحقا، ومنها محاولات إخراج كل كردي من الموصل ومحيطها، وانتقال ذلك إلى بقية مناطق الشمال، وهو ما تريده أمريكا بالضبط أيضا.فضلاً عما صرح به رئيس الإقليم مسعود برازاني، الذي أعلن شروط مشاركة قوات البشمركة (بضمان الشراكة السياسية في الإدارة وضمان حقوق (الأقليات)، وتنفيذ المادة 140، وحل قضية المناطق المتنازع عليها حسب المادة، مضيفا أن الأرض التي تتحرر بالدم، لا يمكن الانسحاب منها).
وأما تدخل القوات التركية فقد جاء بعد أن أعطت إدارة أوباما الضوء الأخضر لأردوغان الذي قال إن (تركيا جاهزة لخوض معركة الموصل على غرار معركة درع الفرات في سوريا)، فتركيا يُراد لها أن تلعب دوراً رئيسياً ومحورياً في الملف السني بعد حسم المعركة.
أما أمريكا فتريد لقوات التحالف أن تكون بعيدة عن العمليات الميدانية وأن تكتفي بدعم القوات المهاجمة من خلال الضربات الجوية، لأن ابتعاد القوات الأمريكية عن ميادين المعركة الأرضية سيوفر على أفرادها الخسائر الضخمة ويجعل ما يسمى (القوات العراقية) تتحملها وتتحمل الجرائم التي ستسفر عنها بحق المدنيين. وبالتالي فإن التحالف الدولي بقيادة أمريكا، يعمل الآن على إنهاك تنظيم الدولة من خلال الضربات الجوية وتدمير قوته العسكرية في داخل الموصل، في حين يقوم الجيش والشرطة والحشد الوطني والحشد الشعبي، بتطهير الأقضية والنواحي والقرى، ويحقق تقدما ملحوظاً بطرد عناصر التنظيم منها بسهولة، لسبب بسيط، هو أنه لا يعول على بقائه في هذه البلدات الواهية عسكريا، ولكنه سيستقتل في الداخل، وهي آخر معاقله وعاصمة دولته! ولذلك فإن استراتيجية عناصر التنظيم تقوم على تفخيخ الجسور والأبنية الرئيسية والطرق وغيرها، أي سياسة الأرض المحروقة، ثم وهذا الأخطر، الانغماس في دروب الموصل القديمة الضيقة جدا، كأحياء الميدان المطلة على نهر دجلة، وأحياء رأس الكور والسرجخانة والشبخون وعون الدين والمكاوي وباب لكش والاغاوات والمشاهدة والفاروق والنبي شيت وغيرها، وهنا يستحيل القتال في هذه الأحياء لأنها مغلقة على نفسها، وسينتشر فيها عناصر التنظيم والانتحاريون وقوات النخبة في حرب شوارع وعصابات طويلة، وسيكون إخراجهم منها عملية معقدة جدا عسكريا، إضافة إلى (حفر الأنفاق العميقة والطويلة) في هذه الأحياء، وفتح البيوت على بعضها بفتحات كبيرة، يتنقلون من خلالها بسهولة، وكذلك نصب العبوات وتفخيخ البيوت وعقد الحارات، ولذلك عندما يتحدث الرئيس الفرنسي وبعض القادة عن المعركة ويقولون إنها ستطول لصعوبتها وتعقيدها، فهم يدركون صعوبة القتال في شوارعها وأزقتها الملغومة. هذا في الجانب العسكري الميداني.
أما على الصعيد السياسي وفي مرحلة ما بعد استعادة الموصل، فأمريكا تسعى لأقلمة العراق وتقسيمه، فخيار الأقاليم خيار مبيت ومطبوخ على نار هادئة من قبل أمريكا وبعض ساسة سنة السلطة وحكومة الأقليم، وهذا ما صرح به رئيس حكومة إقليم كردستان مسرور بارزاني أن العراق يجب أن يقسم لثلاث دول (سنية وشيعية وكردية) بمجرد الانتهاء من الحرب ضد تنظيم الدولة، وكيف عضد وأيد هذا التصريح من قبل المتحدث باسم العشائر العربية في محافظة نينوى، مزاحم الحويت. خيار الأقلمة والتقسيم هندس خطواته بايدن بل استطاع أن يعرضه على مجلس الشيوخ الأمريكي في 26/9/2007 ويحصل على 75 صوتا مقابل 23 صوتا بالرفض، وليس بايدن من يتبنى هذا المشروع بل وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر سبق وأن دعا في آذار/مارس 2006 إلى تقسيم العراق إلى ثلاث مكونات مرجحا أن يكون مصير العراق كمصير يوغسلافيا السابقة. وبهذا ستقطف أمريكا جائزتها الكبرى لزمن غير منظور، على حساب دماء العراقيين التي ستهدرها معركة الموصل، على يد قوات التحالف الأمريكي والغربي، والحشد المليشياوي الذي يصر على دخول الموصل، والانتقام من أهلها بدوافع طائفية وحقد تاريخي إيراني معروف للجميع، وهكذا ستكون معركة الموصل معركة تصفية حسابات دولية وإقليمية، وصراع إرادات وكسب مغانم وتنفيذ أجندات، كلها بحجة القضاء على تنظيم الدولة.
إنه يُرى مما تقدم أن أجواء العراق ملبدةٌ بالمشاكل، وسماءه تنذر بالرعد والصواعق المحرقة، نسأل الله العلي القدير أن يمن على الأمة بالنصر الشامل المبين الذي توضع فيه نهايةٌ لكل الآلام والأوجاع، مع طردٍ ماحقٍ للكافرين الذين أذاقوا الأمة أصناف العذاب، ليحيا الناس في ظل خلافة راشدة ثانية وصادقة على منهاج النبوة، فتقعد أمة الإسلام مكان القيادة والريادة في العالم، تلك المكانة التي أرادها الله عز وجل لخير أمةٍ أخرجت للناس، وما ذلك على الله بعزيز.
بقلم: علي البدري
رأيك في الموضوع