من أهم بنود اتفاق الرياض للمعارضة السورية هو البند الذي أشار إلى اتفاق المجتمعين على طبيعة النظام المستقبلي في سوريا، أي ما بعد الأسد، وأن تكون الدولة "مدنية" تقوم على آلية الديمقراطية، أي دولة علمانية بامتياز. وهذا ما يعني تفسير الماء بعد الجهد بالماء! فبشار الأسد يفتخر بأن نظامه هو نظام علماني بل هو القلعة الأخيرة للعلمانية في المنطقة.
وقد تزامن مع مؤتمر المعارضة السورية في الرياض عقدُ مؤتمر "المواطنة في العالم العربي والإسلامي: واقع وتحديات" في بيروت (10/12/2015) للترويج لمفهوم الدولة المدنية القائمة على مفهوم المواطنة، فألقى المهندس عثمان بخاش كلمة أوضح فيها أن مفهوم الدولة الوطنية هو مفهوم دخيل على الفكر الإسلامي ولا أساس له في الشريعة الإسلامية، فالنظام السياسي للدولة العصرية ولد من خلال الصراع الفكري السياسي العنيف الذي دار في أوروبا ونتج بتكريس العلمانية القائمة على فصل الدين عن الحياة، وصياغة نموذج الدولة الوطنية التي تحدد حقوق المواطنة المزعومة. وبين في كلمته أن الرابطة الوطنية هي رابطة غير إنسانية توجد الخصومات والعداوات بين الشعوب. ومما جاء في كلمته:
"نحن قوم أعزنا الله بالإسلام بعد أن أكرمنا بنعمة الإيمان بالخالق سبحانه، والعقيدة الإسلامية قد انبثق عنها أحكام ومفاهيم ونظم تنظّم علاقة الفرد المسلم مع نفسه ومع خالقه ومع غيره من البشر، كما تنظم حركة المجتمع الإسلامي في كيانه المجتمعي وعلاقاته في داخله كما في علاقاته مع الأمم والمجتمعات في الخارج. فالله سبحانه وتعالى يفرض على المسلمين جميعا، حكامًا ومحكومين، أفرادًا وجماعات، الاحتكام إلى شرع الله في كل صغيرة وكبيرة، وفي هذا يقول الحق سبحانه ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]، ويقول سبحانه: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: 89]، ويقول سبحانه: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ﴾[المائدة: 48]
إذن فعلى المسلم الرجوع إلى الشرع الذي نزل به الوحي على رسول الله محمد بن عبد الله e، ولا يصح ولا يُقبل الاحتكام إلى غير ذلك مطلقا من أهواء البشر وعقولهم القاصرة العاجزة.
هذا الكلام فيما يتعلق بأمور التشريع من حلال وحرام وفيما يتعلق بعبادة الله سبحانه والقيام بالتكاليف الشرعية فيما افترضه سبحانه على العباد واجتناب ما حرمه الله تعالى، كما يتعلق بتسيير شؤون الفرد والمجتمع سواء فيما بين المسلمين أنفسهم أو في علاقاتهم مع غير المسلمين سواء في داخل المجتمع الإسلامي أو خارجه وفي كل مجالات الحياة من نواحي الاقتصاد والثقافة والفكر والسياسة بعامة.
وعلى هذا لا يُقبل ولا يصح الاستدلال بمنظومة مفاهيم وأفكار تشريعية دخيلة على المسلمين وتتناقض مع الإسلام من العقائد والحضارات الأخرى، مع التنويه هنا، باختصار، أن الإسلام يجيز الاستفادة من أشكال المدنية المادية من علوم وصناعات موجودة لدى الآخرين، فهذه لا صلة لها بالعقائد بل هي نتاج بشري لعلوم طبيعية هي عالمية بطبيعتها، فالفيزياء والكيمياء وما شاكل من العلوم والصناعات المادية ليست حكرا على أمة دون أخرى، بخلاف أمور التشريع وتنظيم علاقات الناس المعيشية فهذه تنبع من عقيدة المجتمع القائمة على مفهوم الإيمان بخالق الكون والإنسان والحياة والعبودية له، أو من عقيدة تنكر ذلك وتحدد دور الخالق في حياة الفرد والمجتمع.
وغني عن القول إن الاستعمار الأوروبي كان وراء هدم دولة الخلافة بعد أن نجح في إثارة النعرات القومية بين المسلمين من ترك وعرب، وحرك بعض العرب الطامعين في كراسي الحكم للثورة ضد الخلافة العثمانية، ولما قضت بريطانيا وطرها من الشريف حسين الذي أعلن الثورة على الخلافة العثمانية ألقت به مهملا في المنفى، ثم عمدت إلى إشراك فرنسا في تنفيذ اتفاقية سايكس بيكو في تقسيم المنطقة إلى دويلات هزيلة تقوم على فكرة "الدولة الوطنية" بما يقتضي ذلك من صناعة "هويات" مصطنعة لتبرر الخلافات وتؤجج الأحقاد والكراهية بين من كانوا حتى الأمس القريب أبناء أمة واحدة ضاربة الجذور في التاريخ. فرسم الحدود الوهمية لما سمي بالحدود التي كانت ولا تزال سببا دائما لتأجيج الصراع وسفك الدماء بين أبناء الأمة الواحدة، حتى إن العائلة نفسها والقبيلة الواحدة قسمت بفعل هذا التقسيم المصطنع فأصبح أفرادها "ينتمون" إلى أوطان فرضت عليهم بقوة الحديد والنار، وتحت شعار الوطنية المفروض أصبح فرضًا على السوري مقاتلة جاره الأردني أو على المصري قصف جاره الليبي وهكذا... وهكذا صارت "الأوطان" مقدسةً بينما حفنة من الحكام العابثين الذين يدينون بكراسي الحكم لأرباب نعمتهم في الدول الغربية يستبيحون البلاد والعباد التي جُعلت نهبًا لشركات الاستعمار الغربية، بينما تقوم النظم البوليسية بقمع كل دعوة شريفة تهدف إلى استعادة وحدة الأمة وعزتها وقوتها. وفوق هذا وذاك اصطنعت "جامعة الدول العربية" لتكريس هذه التجزئة بحجة حماية السيادة الزائفة للكيانات الوطنية، بينما صاحب القرار والسلطان هم قادة الاستعمار الغربي. هكذا يتبين أن مصطلح "الوطن" و"الدولة المستقلة ذات السيادة الوطنية" هي من أهم أدوات الغزو الفكري الغربي، الذي استخدم بعض النصارى وبعض أبناء المسلمين مطيةً لترويج سموم الحضارة الغربية، وإضفاء المشروعية على الأوضاع التي فرضها المستعمر، بغية الحيلولة دون عودة وحدة المسلمين تحت ظل الدولة الإسلامية الجامعة كما كان الحال منذ عهد النبوة.
والدولة الإسلامية ملزمة بضمان أمن وكرامة كل من يعيش في كنفها لا يضار في نفسه وولده وماله ولا يفتن عن دينه. ولسنا بحاجة للدلالة على أن الواقع المعاش في الشام وسواها في مصر وغيرها واضح في أن غير المسلمين عاشوا آمنين على أنفسهم وأديانهم حتى عهد الاستعمار الحديث الذي عمل على إيقاع الفتنة بين أهل البلد الواحد.
والفهم السياسي لواقع الأمور يظهر بكل جلاء ووضوح تدخل القادة الغربيين في كل شاردة وواردة في أمور الحكم والاقتصاد سواء في مصر أو السودان أو الشام أو غيرها... ووصل الأمر بالقادة الأمريكان لأن يصرحوا بأن المنظومة التي بنيت على اتفاقية سايكس بيكو قد استنفدت أغراضها وصار لا بد من إعادة صياغة المنطقة من جديد على أساس كيانات قومية عرقية طائفية. ولم تكتف أمريكا بفصل جنوب السودان عنه بل هي تعمل الآن لفصل دارفور وكردفان قبل تفتيت ما تبقى من السودان إلى خمس دويلات.
نعم نحن ندرك أن خلفية هذه الدعوة إلى الكيانات الوطنية التي صنعها الاستعمار تكمن في مطامع بعض رجال السياسة والفكر إلى لعاعة من الدنيا من منصب أو كرسي أو منفعة مادية يرميها لهم حكام الغرب، وبعضهم ينطلق من قناعة فكرية بأن العلمانية هي الحل الصحيح وأنه لا بد من بناء الأوطان على أساس فصل الدين عن الحياة، في استنساخ صارخ للتجربة الغربية في الصراع الدامي الذي دار بين سلطات الكنيسة ورجالات الحكم. وقد ذهب بعض المقلدين للفكر الغربي إلى القول إنّ "الدولة الوطنية إما أن تكون علمانية وإما لا تكون دولة وطنية، بل لا تكون دولة... فإنّ علمانية الدولة تتأسس على مبدأ الإنسان وعلى مبدأ المواطنة، وهما مبدآن حاكمان على الدولة الوطنية.
فعلى المسلمين نبذ هذا المفهوم الذي يتناقض مع عقيدة الإسلام، بل يشكل رأس حربة في تكريس الهيمنة الاستعمارية في تفتيت الأمة بحسب سياسة "فرق تسد"، وعليهم أن يتكاتفوا جميعا على قلب رجل واحد ليحطموا قيود التبعية للدول الغربية رافضين كل من يروج للغزو الغربي، وأن يعتصموا بحبل الله المتين فيعودوا كما كانوا خير أمة أخرجت للناس.
رأيك في الموضوع