رفع المتظاهرون في ساحات بيروت يوم السبت 29/8/2015 شعارات ومطالبات عدة تتلخص بالتهجم الشامل على الطبقة السياسية في لبنان، والمطالبة بالتخلص من السياسيين كلهم، بالإضافة إلى مطالبات عديدة اختلط فيها الحابل بالنابل: من عدالة اجتماعية، إلى إسقاط النظام، إلى فضح ملفات الفساد في مغارات أروقة الحكم، إلى استقالة وزير البيئة محمد المشنوق، إلى محاسبة وزير الداخلية نهاد المشنوق على قمع القوى الأمنية لمظاهرة الأسبوع السابق 22/8، إلى المطالبة بحق العمل والعيش الكريم، وتوفير الكهرباء والماء، وطبعا إنهاء الأزمة التي كانت "القشة التي قصمت ظهر البعير" أي النفايات التي طافت وفاضت في شوارع بيروت وأزكمت روائحها الأنوف، ولم تفلح حكومة سلام في تدبير حل لها...
وقد أجمع الناس في لبنان، ومن بينهم السياسيون، على مشروعية المطالب هذه ولا شك، ولكن الشيطان يكمن في التفاصيل... فقد حاول بعض الساسة أن يتذاكوا على المتظاهرين بركوب موجتهم، فاعترف وليد جنبلاط صراحة بأحقية "معظم المطالب" ولكنه لبس ثوب الناصح للمتظاهرين ولقيادات حملات "#طلعت ريحتكم" و "# بدنا نحاسب" فنصحهم بالحيلولة دون استغلال الأحزاب السياسية لحملات احتجاجهم، ومطالبا إياهم بدراسة "آلية تنفيذ" المطالب التي طرحوها.
ولقد صدق جنبلاط، وهو المراوغ الأول في دهاليز السياسة اللبنانية، بأن وضع الأصبع على الجرح، أو كشف المأزق الحقيقي لهذه المظاهرات التي وإن أفلحت في قض مضاجع السياسيين، من فريقي 8 و 14 أذار، ولكن ليس لوقت طويل، ما لم تفلح في وضع حل جذري للنظام الرأسمالي الطائفي في لبنان.
وبالنظر إلى سلة المطالبات التي طرحت فهي تكشف عن عدم وجود نظرة سياسية واعية لدى قيادات الحراك الشعبي، فأزمة النفايات، وهي ليست أكثر من جبل جليد الفساد السياسي في لبنان، ليست وليدة اليوم ليتحمل مسؤوليتها المشنوق لوحده...
وفساد النظام الحاكم في لبنان لا ينحصر في حكومة اليوم، بل يشمل الطبقة السياسية بكاملها، ولو سألتني أن أذكر لك سياسيا صادقا شريفا من الوسط السياسي كله لأعيتني الحيلة.
فالفساد في تركيبة النظام اللبناني يعود إلى أصله الطائفي الذي ركبه الاستعمار الفرنسي من يومه الأول، سواء على أساس ما يسمى بالميثاق الوطني الذي أسس الجمهورية الأولى (1943-1975) أو اتفاقية الطائف التي فرضتها أمريكا سنة 1989 والتي لم تكن أكثر من ترقيع وتعديل لميثاق الجمهورية الأولى، بل وكرست التركيبة الطائفية التي تجعل من لبنان مزارع ومحاصصات لزعماء المافيات السياسية، الذين يتقاسمون "الكعكة" والمغانم فيما بينهم، سواء في مرحلة الوصاية السورية المباركة من قبل الإدارة الأمريكية (1976-2005)، أو في المرحلة الحالية بعد خروج النظام السوري وقيام السفارة الأمريكية بإدارة التفاصيل اليومية التي كانت موكلة لمخابرات النظام البعثي.
هذا الواقع الطائفي المتجذر في التركيبة السياسية هو ما حمل الكاتب الصحفي راجح الخوري (جريدة النهار 29/8/2015) على نعي الحراك الشعبي الذي لن ينجح في أكثر من "تعديل" توزيع الحصص الطائفية فيما بين الطبقة السياسية نفسها بفريقيها 8 و14 أذار.
في لبنان الحقيقة الساطعة التي يجمع عليها الجميع هي فساد الطبقة السياسية واستحالة إخضاعها للمحاسبة والمساءلة، والوقائع في هذا أكثر من أن تحصى: فالدين العام الذي بلغ مجموعه، بحسب جريدة الإيكونوميست، 103 مليار دولار (ما يشكل 211% من الدخل القومي السنوي)، مع أنه حتى سنة 1992 كان حجمه 3 مليارات دولار، ومع أن ميزانية الكهرباء تستنزف مليارين من الدولارات كل عام لا زال اللبنانيون يعانون من انتشار العتمة وغياب الكهرباء، ومع أن المسؤولين وعدوا بكشف ملفات الفساد في فضيحة "بنك المدينة" إلا أن هذه الوعود طواها النسيان..
ومع أن رئيس البرلمان نبيه بري قطع وعدا حاسما في انتخابات 2009 بأن أول أمر سينجزه البرلمان العتيد هو إصدار قانون انتخابات جديد، إلا أن هذا الوعد أيضا تبخر ضمن لائحة طويلة من الوعود الكاذبة...
ومن تابع مطالبات المتظاهرين سمع إجماعهم على المطالبة بقانون انتخابات يقوم على النسبية الذي أصبح بسحر ساحر الترياق العجيب لمشاكل لبنان.
الواضح الآن أن القيمين على الحراك الشعبي إما أنهم لا يفقهون شيئا في السياسة، وبالتالي فحراكهم لا يعدو أن يكون "صرخة ألم" تسجل في التاريخ، أو أنهم موعودون بوعود من أروقة بعض السفارات التي تريد إجراء تعديل جدي في النظام اللبناني يعكس النموذج العلماني الأمريكي الأعور ويهدم التركيبة الطائفية الشوهاء التي أوجدها الاستعمار الفرنسي.
وكل هذا لا يخرج عن منطق "وداوني بالتي كانت هي الداء": فأصل الداء هو النظام الرأسمالي الفاسد سواء بصيغته الفرنسية أو الأمريكية أو اليابانية. فالنظام الرأسمالي، في أي بلد ومهما كانت "نسخته المحلية"، يقدس المنفعة المادية، ويخدم مصالح أرباب رأس المال على حساب الجماهير الكادحة (وما الأزمة اليونانية الأخيرة إلا شاهد على هذا حيث رفض أصحاب الرساميل الأوروبيون إنقاذ إخوانهم في اليونان من أزمتهم)، ويقصي النظرة الإنسانية والنظرة الروحية من حساباته، مهما حاول ترقيع عورته برفع شعارات حقوق الإنسان والديمقراطية وحكم الشعب بالشعب.
من هنا فإننا نقول صادقين لأهل لبنان أن خلاصهم هو في خلع طوق العبودية لعصابة الرأسماليين المتحكمين في ثروات البلاد ومصائر العباد، وأن يلجأوا إلى الشريعة الربانية التي شرعها رب العالمين ففيها الحل الناجع لمشاكلهم المعيشية التي هي في جلها من نتاج الطبقة السياسية وفساد المنهج الرأسمالي المطبق. ومن قبيل المثال: فإن الإسلام يوجب على الحاكم تأمين ضرورات العيش الكريم لكل إنسان، أي إنسان، من مسكن ومطعم وملبس وطبابة وتعليم، وأن الدولة لها أن تفرض من الضرائب على الأغنياء الموسرين من المسلمين، وليس على الفقراء المعدمين، ما يمكنها من تأمين هذه المقومات، إن لم يكن في بيت المال مال، وفي الإسلام ليس هناك دينٌ يبدأ بـ 3 مليارات ثم ينتهي ليصبح 100 مليار هو عبارة عن سرقات يتقاسمها السياسيون وحاشيتهم المنتفعة معهم!!
رأيك في الموضوع