عاش العراق وشعبه حقبة عصيبة في ظل حُكم البعث، اتسمت بنظام بوليسيٍّ لم يُقِم للإنسان وزناً، ولم يَرَ له حقاً في اختيار ما يناسبه من فكرٍ أو ممارسةٍ سياسية، أو نشاطٍ اقتصاديٍّ يتخذه وسيلة للعيش. فقد كان كابوسا ثقيلا تمدَّد ليلُه ما يربو على ثلاثة عقودٍ بين عامي 1968 و2003، أصاب البلاد خلاله حروبٌ كونيةٌ عبثية نفذها نظام صدام نيابة عن بريطانيا ليحفظ (مصالحها) في العراق هلكتْ فيها مُهجٌ، ودُمِّرَت مُقدّرات، وما كاد يُزاح عِبؤهُ الثقيل عن صدور العراقيين حتى هبط عليهم بلاء احتلالٍ أمريكيٍّ أشد بؤساً وظلاماً.
وظنَّ المُحتلون أنَّ شعب العراق سيحفظ لهم هذا (المعروف)، ويحملهم على الأكتاف لقاء إنقاذهم إياه من طاغية قل نظيرُه في التاريخ، وما هي إلا أن فوجئ الأمريكان وعلوجهم ومرتزقتهم بالشعب الأبيِّ ينتفض ضد مَن دنَّس أرضه وأذلّ كبرياءه.. نقول: فوجئوا بالضربات القاصمة تنهال عليهم من كل حدب وصوب، فقد هبَّ العراقيون على تنوُّعهم هبة رجلٍ واحدٍ ضد الغزاة وأذنابهم، وصار صيد الكفار على يد المقاومة الشريفة عُنواناً لكل يوم جديد، حتى بلغ عدد قتلاهم الآلاف.
انتبه المحتل مفزوعا من هول ما أصابه، وأفاق من سكرته، وصار يفكر ويُقدّر في وسيلة للخلاص من المستنقع الذي غاص فيه.. ﴿فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾ فهداه خبثهُ إلى ما يكفُّ عنه الموتَ والخسَار، ألا وهو الضرب على أوتار الطائفية والعِرْقية، ليشغل الشعب بعضه ببعضٍ، ويمسكَ هو بزمام الأمور.
وجاء دستور العراق الذي أعَدَّه (نوح فيلدمان) اليهوديّ الأمريكيّ، وضمَّنه كل معاني الفرقة والتقسيم، ثم أعقبه مشروع (جو بايدن) الذي صادق عليه الكونغرس الأمريكيّ بالإجماع، والذي يقضي بضرورة تقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم: سُنّية، وشيعيَّة، وكردية، فكان ذلك القرار الذي وُصف حينها بغير الملزم هو خارطة الطريق التي سعى الكافر المحتل ولم يزل يسعى لتحقيقها. ومصداق كلامنا: ما أقدمت عليه لجنة القوات المسلحة في الكونغرس الأمريكي - بحسب صحيفة "المونيتور" الأمريكية في 27 نيسان 2015 - بالإعلان عن مشروع قانون للدفاع يخول بصرف (715) مليون دولار كمساعدات للقوات العراقية التي تقاتل "تنظيم الدولة"، موضحة أن المشروع يتضمن حجب (75) بالمائة من المساعدات عن بغداد ومنح أكثر من 60% منها مباشرة للأكراد والسنة ودون الرجوع للحكومة الاتحادية، في حال: عدم إعطاء الأقليات دورٍ أكبر في إدارة البلاد، وتحقيق شمولية سياسية، وإقرار قانون الحرس الوطني، ووقف الدعم للمليشيات الشيعية في مُهلة قدَّرُوها بثلاثة أشهر..!
إن ظاهر القرار براقٌ ينخدع به الجهَلةُ ويرَوِّجُ له المنتفعون، بحجَّة أنه يُنصِفُ المظلومين والمُهمَّشين، وهذا في الحقيقة محض كذبٍ وافتراء يأباه واقعُ الغرب الكافر وزعيمته أمريكا الذين لا يَعدِلون (بمصالحهم) شيئاً ولو دمَّروا شعوب الأرض..!
أما باطنه فسُمٌّ زعافٌ يُفضي إلى خرابٍ شاملٍ ومصيبةٍ عظيمةٍ ألا وهي تقسيم العراق ليكون أثراً بعد عين. ودليلنا عليه: أن مشروع القرار نفسه يوصي بالتعامل مع قوات (البيشمركة) الكردية والفصائل السُّنية المسلحة في العراق (كقوتين منفصلتين)، أو (دولتين) من أجل توازن القوى أمام الكمّ الهائل من الجماعات المسلحة الشيعية (بحسب وكالات الأنباء المتنوعة).
وصار النظام السياسي مؤلفا من ثلاث سلطات: تشريعية، وتنفيذية وقضائية. مُنِحَت الأولى تبعاً لنظام المحاصصة "للعرب السُّنة"، وهي سلطة شكلية لا تتعدى كونها ديكوراً، ومُنِحت الثانية (التنفيذية) إلى (الشيعة) - ممن استعان منهم بالكفار وسوَّق لمظلومِيّة الطائفة - فاختارهم المحتل على عين بصيرة ليَعَضُّوا على الحكم بالنواجذ، وليكونوا طوْع بنانه ينفذون أشد المشاريع خِسَّة، نكاية بخصومهم، وتدميراً لما فات المحتل فِعْلُهُ، ومَن طلب الدليل فلينظر لحال العراق: بلد المال والرجال، كيف أصبح؟ أحرارُه قيد السجون والمطاردة والتهجير، واقتصادهُ منهار، وخزائنه خاوية بفعل الفساد المستشري على جميع المستويات. وأما السلطة الثالثة (القضائية) فمنحت لشخصيات موالية للائتلاف الشيعيّ الحاكم، وكانت خاتما في أصابعهم فاستخدموها أبشع استخدام في تصفية الخصوم، لا سيما في ولايتي (المالكيّ) فأضحى التعايش بين إخوة الأمس أمرا مستحيلا، وارتفعت المطالبات بالفدرلة والأقلمة.
وظهر تنظيم الدولة (الإسلامية)، فكانت القاصمة: احتلالٌ جديدٌ شامل لا للعراق فحسب، بل لكثير من بلاد المسلمين تحت (مظلة) التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب... ثم تبعها داهية كبرى: ألا وهي فتوى (الجهاد الكفائي) لتحقق أمرين أحدهما أخطر من صاحبه، أولهما: تسنُّمُ المرجعية الدينية سُدة السياسة، فترى وفود الساسة الأجانب وغيرهم لا بد وأن يطلعوها على المستجدات..! وثانيهما: فتح الباب على مصراعيه أمام إيران لتدخل البلاد بأرتالها العسكرية ومدرعاتها وطائراتها بقوة وتبختر، ودون إذنٍ من (الحكومة الاتحادية) يرافقها ميليشياتها الطائفية المدرَّبة لديهم، فضلاً عما عُرف (بالحشد الشعبيّ): وهم (المتطوعون) الذين بلغ تعدادهم مئات الألوف، ليكونوا - فيما بعد - بديلاً للجيش النظاميّ...! وبدل أن يعترض التحالف الدوليُّ فيمنع تدخُّلات إيران في الشأن العراقي، نراهُ يوفِّر لها الحماية اللازمة.
ويبدو أن المؤامرة التي تجري فصولها على أرض العراق الجريح رباعية الأطراف، قد اضطلع كل طرف بإنجاز نصيبه منها - لا وفقهم الله تعالى - لتكون المحصّلة النهائية تقسيمَ البلد إلى ثلاثة كانتونات طائفية وعِرقية، بحسب خطة (بايدن) آنفة الذكر، ليُفتتِّوا العراق، ويَحولوا دون قيام دولة إسلامية حقيقية فيه، وليجعلوا منه قاعدة للتآمر على ما حوله من البلاد.. ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾:
أما طرف المؤامرة الأول: فهو أمريكا، التي تبدي حرصها على شعب العراق ظاهراً، وتكيدُ بأهله سرّاً لِمَحْقِهم وإذلالهم. وتُصرِّح بقلقها - حينا آخر - من التمدُّد الإيرانيّ سياسيا وأمنيا، وتحذر من تمادي الميليشيات الطائفية بجرائمها، ثم تقدم الدعم العسكريّ لجحافلهم..!
وأما الطرف الثاني: فإيران وميليشياتها، وهؤلاء ماضون - تحت تأثير تعبئة طائفية خاطئة - بخلق العداوة والكراهية وتمزيق النسيج الاجتماعيّ بالخطف والقتل والتهجير لإخوانهم (أهل السُّنَّة) متناسين قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، وأنَّ العَدُوَّ الحقيقيّ لجميع المسلمين هو الكافر المحتلُّ وأذنابُه.
والطرف الثالث: هو الحكومة الفاشلة بقيادة (العباديّ) التي سوَّق لها الأمريكان، والحال أنها تقتفي آثار سلفها (حكومة المالكيّ)، فتُغدقُ الأموال والسلاح على (الحشد الشعبي) وتحرِمُ منهما مقاتلي العشائر في شمال العراق وغربه، بل وتتهمهم بالضعف وقلة الحيلة وأنه لا مناص من طلب نجدة (الحشد)، ونرى (العباديّ) وحزبه (حزب الدعوة) يكافح ويدافع عن الميليشيات ويغضُّ الطرفَ عن جرائمها. ويوم يقررُ تسليحَ العشائر (السُّنّية) يُسَلمُ رجالها بنادق مِصريَّة قديمة من نوع (بور سعيد) المعروفة بسلاح النساء..! ولكل ذي عينين أن يفهم الدوافع وراء ذلك، وكيف أنه يلتقي بل وينسجم مع مطالب كافر عدو للإسلام كأمريكا والغرب.
وأما الطرف الرابع والأخير: "فتنظيم الدولة" الذي أعطى بتصرفاته صورة مشوهة للإسلام الذي هو رحمة للعالمين، وربما نفرَ بعض الناس من مفهوم الخلافة... وشكّل - من جهة أخرى - مُبررا لوجود التحالف الأمريكي الصليبي على بلاد المسلمين خاصة الشام والعراق.
وفي الختام، نحن على يقين بأن لا مخرج من تلك المآسي والأحزان التي ألَمَّت بنا أو بإخواننا أينما حلوا من بلاد المسلمين، إلا بقيام دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، ليستنهض الخليفة بإذن ربه عز وجل طاقات الأمة الكامنة، التي كبتها الأعداء، فيحكم في الناس بشرع الله سبحانه، ويحمل الإسلام بالدعوة والجهاد إلى كل بقعة من بقاع الأرض حُرِمَت نورَ الإسلام وعدله ورحمته، وتعود بلاد المسلمين كما كانت بالأمس كعبة الدنيا والشمس التي تُشرقُ بالنور والدفء على الناس، ولنثبت للعالم أن كل ما قيل بحق المسلمين أو ألصق بهم هو افتراء وكذب، وأن أعداءنا خابوا وخسروا، ولا بد من القصاص العادل منهم.. ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.
بقلم: عبد الرحمن الواثق - العراق
رأيك في الموضوع