من الحقائق المستخلصة من حملة أمريكا المزعومة على الإرهاب عموما، وعلى تنظيم الدولة في العراق وسوريا خصوصا: ذلك الارتباط العضوي بين البلدين لتشابه وسائل قهرهما قديما وحديثا، ولأن غالب أهلهما يتوقون إلى التحرر من نير التسلط الأمريكي، بعد أن ضاقوا ذرعا بأدواتها في المنطقة كإيران ومَن شاكلها. الأمر الذي يقتضي من الكفار وأتباعهم إدامة زخم تلك الحملة لتحقيق أهداف متعددة ليس آخِرَها حمايةُ كيان يهود، ولحين إنضاج البديل لسفاح الشام.. لذا فقد مهَّدوا سلفا عبر تصريحات مؤذية مفادها أن طرد تنظيم "الدولة" ربما استغرق ثلاث سنوات كما توقع (كيري) أو ثلاثين عاما بحسب (ليون بانيتا) وزير دفاعهم السابق (وكالة أ. ف.) ويأتي هذا في سياق الحرب النفسية على بلاد المسلمين.
وأعقب سقوط الرمادي تعليقاتٌ تنمُّ عن حِقد وجهلٍ وتعالٍ، لا تنسجم وأخلاقَ الفاتحين أدلى بها رموز ما كان لأحد يوماً أن يُلقي لها بالاً، لكنَّ خضوعها لكافر محتل، منحها هامشا تتحرك فيه حيناً مِن الزمن، وهي مِن قبيل "الفلوجة ورم سرطاني سيتم استئصاله" أو أنها "رأس الأفعى"، وأن "استعادتها من يد (التنظيم) مسألة وقت"... بل قال ما يُعرف برئيس قوات الحشد الشعبي (هادي العامريّ): "أن تحرير الفلوجة من "التنظيم" الإرهابي سيمكن القوات من الدخول إلى الرمادي بسهولة" أو "من دون قتال".. "وأن الهجوم سيكون وشيكاً" (موقع المَسَلة في 14/6/2015)، لكن شيئا من ذلك لم يتحقق.
وقد ساهم الإعلام (الأجير) برسم صورة كاذبة عن الواقع فبَالغَ في تعظيم (المساعدات) المقدمة وهي في الحقيقة أسلحةٌ ومُعداتٌ تُشترى بملياراتِ الدولاراتِ من أموال الشعب المقهور لتمكين الجيش وباقي التشكيلات العسكرية من دحر العدو وتحقيق النصر، ثم لا تلبث أن تكون غنائم سهلة لتنظيم "الدولة" في أول اشتباك بين الطرفين، بل وبأوامر عُليا بتركها في مواضعها حتى يطول عُمُر هذه المأساة الخانقة - كما أقرَّ بذلك قادة عسكريون كبار - الشيء نفسه ينسحب على ميليشيات (الحشد الشعبي) وما ابتدعوا لهم من انتصارات وهمية لم نر لها أثرا يُذكر، بل لقد جزم بعضهم بأن تحرير الفلوجة والرمادي وباقي الأنبار مسألة وقت، بعدها يُتحوَّل إلى نينوى وتحريرها من قبضة "التنظيم".
أما عن أسباب تعثر القوات العراقية في حربها ضد تنظيم الدولة، وعدم إحراز النصر الموعود، فذلك يرجع إلى أسباب عسكريةٍ وسياسيةٍ معاً:
أولاً: الأسباب العسكرية:
والأسباب العسكرية، منها ما يتعلق بالجيش العراقي بشكل عام ومنها ما يتعلق بسير العمليات العسكرية.. أما ما يتعلق بالجيش العراقي فمن المعلوم أنَّ جيش العراق لم يَعُد كما كان إبان النظام السابق، ذلك أن أمريكا الغازية قضَتْ بتفكيكه في بداية الاحتلال عام 2003 وزعمَتْ أنها بصدد إعادة بنائه وتدريبه وتسليحه على أسُسٍ عصريةٍ صحيحة، وأنفقت لذلك مليارات الدولارات خلال العشر سنوات الأولى للاحتلال، كان واضحاً فيها الفساد والمكر الخبيث ونهب الأموال... فكانت النتائج صاعقة في سوء أداء الجيش الجديد وفي مواطن كثيرة: هزائم فادحة وفاضحة ذهبت بمكانته المعروفة سابقاً حتى بات مادة للتنَدُّر والسُخرية، ثم طالتْ يدُ الغدر قياداتِه الكفؤة خطفاً وتصفيةً من قِبَل عملاء إيران انتقاماً ممن قاتل الجمهورية (الإسلامية) تحت راية صدام... فقضى من قضى، وهرب من هرب، ولم يبقَ غير نماذج خانعة رضيت بفُتات الحكام الجدد. والحقُّ: أن أمريكا ما كانت لتُلغِي جيش العراق ثم تعود لتبنيه مرة أخرى.. وأيضا قد غلب على الجيش الجديد شراذم الطائفيين والقتلة وقطاع الطرق ممن عاش سنوات على فضلات (الجارة المسلمة) فنُسِفَت كل السياقات الرصينة المعروفة لدى الجيوش القوية.
أما ما يتعلق بسير العمليات العسكرية، فتوضحها الأمثلةُ التالية:
تبخُّر وعود القيادات العسكرية ومنظمي الحشد الشعبي بأن معركة الأنبار ستكون أسهل من معركة تكريت، وحُشِدَ لها أكثر من (15) ألف مقاتل من الجيش والحشد والفرقة الذهبية والشرطة الاتحادية خلال العملية، يُضاف إليها قرابة (4) آلاف مقاتل من العشائر لكنَّ العملية لم تحقق أيَّ تقدم في المدن التي يسيطر عليها "التنظيم" حتى الآن سوى تطويق بعض المدن وقطع عدد من طرق إمداد "التنظيم" ما بين مناطق المحافظة بحسب ما صرح به ضابط عسكري وأحد أعضاء مجلس محافظة الأنبار. (أنباء متفرقة).
قال ضابط رفيع بالجيش لوكالة الأنباء الألمانية - رفض الكشف عن هويته -: إن "العملية العسكرية التي أطلقها القائد العام للقوات المسلحة منذ أيام، تواجه صعوباتٍ كبيرة في استرجاع المناطق التي يتمركز بها التنظيم الإرهابي، وخاصة في مدينتي الرمادي والفلوجة وضواحيهما الخارجية". (الوسط أون لاين الدولي).
وعزا الضابط ذلك لاتّباع القيادات خططا عسكرية تقليدية ولغياب المعلومات الاستخباراتية في مواجهة ذلك "التنظيم" الذي يتَّبعُ سياسة الكرِّ والفَرّ، وأسلوب العصابات المتطور، فضلاً عن اعتماده أساليب عسكرية تأخذ طابع الحداثة باستمرار تضاهي الأساليب التي يتبعها الجيش العراقي.
وأوضح الضابط المذكور: أن "القيادات العسكرية تقوم بزج عناصر الأمن العراقي والحشد الشعبي بشكل عشوائي ودون خطط عسكرية في المعارك ضد "التنظيم".. (المصدر السابق وجريدة النهار).
وأكد القيادي في تحالف القوى العراقية (حيدر المُلا) عن تكبد قوات الحشد الشعبي خسائر ثقيلة في المقاتلين والعتاد بعد أسبوع من إعلان معركة جديدة بمحافظة الأنبار ضد مقاتلي "التنظيم"، وعلى مشارف قضاء الفلوجة نتيجة ضعف الخطط العسكرية وعدم وجود التنسيق ما بين القوات المسلحة، وأن الحكومة العراقية تُنكِر تعرُّضَ قواتِها وميليشياتِها لخَيبات وإخفاقات من خلال ضخ دعائي لا يبدو مكترثا لحقائق الميدان. (الوسط أون لاين والجزيرة نت).
كونُ مَيدان المعارك مناطقَ كثيفة السكان، وقيام "التنظيم" بهجمات بسيارات مفخخة على الوحدات العسكرية، فضلا عن التحصينات وعمليات التلغيم المتبعة لديه، يؤكد ذلك (محمد البجاري) عضو المجلس المحلي للفلوجة: أنها "مدينة محصنة ولا يمكن للجيش اقتحامها بسهولة". (المدى برس).
ثانياً: الأسباب السياسية:
وهذه الأسباب مزيجٌ من خطط، واتفاقيات، وأوامر يتم إبلاغها إلى الحكام التابعين - ومنهم حكام العراق - عن طريق أطراف ثالثة، أو تُبَلغُ إليهم شخصياً في لقاءات ثنائية، أو تصريحات إعلامية يُراد مضمونها أو ردود أفعالها، وقد تُملى على الحاكم إملاءً لا يستطيع التنصل منها، ويقوم بتنفيذها طوعاً أو كرهاً، أو عبر افتعال أزمةٍ ما، أو المماطلة في تنفيذ الاتفاقات أو العقود ليفضي ذلك إلى تحقيق أهداف يرغب بها الكافر المحتل... إلخ. ومن أمثلة ذلك:
تأكيد وزير الدفاع الأمريكي كارتر، خلال زيارته الأخيرة لبغداد على أن المشاركة (السُّنية) في الحملة أساسية لنجاحها. (وكالات أنباء). ولا شك أن ذلك يعني بلبلة في صفوف القوات المسلحة لصبغتها الطائفية، وهو أمرٌ يتعلق بجاهزية مقاتلي السنة أو عدمه، وهل ستسلحهم الحكومة أم أمريكا؟ وهذا يخدم أهداف المحتل ويطيل من تمدُّد "التنظيم".
قال مصدر في العمليات المشتركة: إن "الأمريكيين وضعوا خطة جديدة لتحرير محافظة الأنبار على مراحل عدة تشمل البدء بتحرير الرمادي وعزلها عن المدن المجاورة لها، ثم تحرير الفلوجة"، مبيناً أن "الأمريكيين لا يريدون فتح الجبهتين في الوقت نفسه وخصوصاً الفلوجة فهم مصرون على تأخير انطلاق عمليات تحريرها.. (عراق القانون في 14/7/2015). ولا شك أن هذا يُخالف خطة الحكومة العراقية.
المماطلة في تنفيذ عقود تجهيز العراق بالسلاح والأعتدة والطائرات وما شاكلها... وكل ذلك يدخل في دائرة القرارات السياسية، وإلا كيف يُتَصور خلوُّ مخازنهم من عدة مئات من الصواريخ..؟!
وهكذا تبقى بلاد المسلمين رهينة لمكر الكفار المتسلطين والعابثين بأمن أمتنا، والمشوِّهين لديننا، المعتدين على عقيدتنا الإسلامية وأحكام شرعنا الحنيف حتى يمُنَّ الله عزَّ وجلَّ بنصره على الثلة المؤمنة التي عملت ولا تزال تعمل على إقامة دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، ويومها سيذوق أولئك الظالمون ما يستحقونه من جزاء، وتعلو راية العُقاب أرجاء المعمورة ويحُل الأمن والعدل والخير وما ذلك على ربنا بعزيز. ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ *وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾.
بقلم: عبد الرحمن الواثق
رأيك في الموضوع