لم يعد خافيا أن ما يجري في فلسطين هو هجوم ديني دموي من قبل كيان الاحتلال اليهودي بجنوده ومستوطنيه على أهل فلسطين ومقدسات المسلمين، وهو حلقة في سلسلة الإجرامب اليهودي الممتدة: وذلك بداية من هجوم حاخامات الحكومة اليهودية على المسجد الأقصى، إلى الاغتيالات والإعدامات الميدانية التي ينفّذها جنود الاحتلال اليهودي بتعليمات من نتنياهو، في تناغم مع هجمات المستوطنين على قرى فلسطين وأحيائها، بما يعبر عن حقد يهودي متأصل في عقيدتهم الباطلة. وفي المقال السابق تحدثت عن التقاء الدوافع التلمودية مع الغايات السياسية الرافضة لحل الدولتين، وأن العدوان على الأقصى وتهويد القدس هو المعلم الأبرز على أجندة حكومة نتنياهو الليكودية، وهو يجد في هذا التصعيد منفذا لتفجير الأوضاع والهروب للأمام من حل الدولتين.
إن المعلم الأبرز في نظرة الكيان اليهودي للدول العربية هو الاستخفاف، والاستهانة بها وبحكامها، مع الاطمئنان إلى دور حرس الحدود الذي تنفذه السلطة الفلسطينية ودول الطوق المحيطة بفلسطين، وهي تحمي الاحتلال من غضبة الأمة. وهذه الحماية شجعت المستوطنين الجبناء بالفطرة والعقيدة على الهجوم.
أمّا حول ردود الأفعال، فإنه رغم مشاهد الدماء المراقة والقتل بدم بارد، وتدنيس المسجد الأقصى، فقد ظلّت تلك الردود باهتة باردة، لا ترقى لمستوى العدوان اليهودي وبشاعته: فالحكومات غارقة في المؤامرات على الشعوب، ومنشغلة في تنفيذ المصالح الاستعمارية في اليمن وسوريا ومصر وإيران وتركيا، وهي قلقة على مستقبل عروشها لا على مقدسات الأمة. ومن اللافت أن أصوات الذين تدافعوا وتداعوا لزيارة المسجد الأقصى تحت الاحتلال، قد بُحّت اليوم، وانشغل العلماء، الذين استباحوا تلك الزيارات التطبيعية، بالشحن الطائفي، وبشرعنة القتل في اليمن تحت دعوى الجهاد فيه. فيما ظلّت الجيوش مسلوبة الإرادة العسكرية ومسخَّرة من قبل الحكام لحماية الأنظمة أو تنفيذ مصالح القوى الاستعمارية تحت أوامر الحكام العملاء.
أما ردود الأفعال الشعبية فهي تكاد تكون معدومة حتى الساعة في دول الطوق وغيرها، وإن حصلت كما في عمان فهي محدودة، ولم يتبق من أفق فيها إلا غضبة أهل فلسطين: هب شبابها المندفعون بطاقة إيمانية، للتعبير السياسي عن رفض الاحتلال ونبذ المتعاونين معه، وتمردوا على نهج الترويض والتدجين السياسي، وحملوا ما تيسر من سكاكين وأدوات وردّوا على الهجوم بالهجوم رغم قلة ما في اليد.
تمكّنوا - في هبتهم العفوية - من إيلام العدو وأغاظوه، وكشفوا عن معادنهم النقية، وعن أصالة مشاعرهم الإسلامية، وحب الشهادة، ومثّلوا تهديدا أمنيا لليهود الجبناء بطبعهم. فأعاد نتنياهو حساباته، وراجع عباس ثوابت عقيدته الأمنية، ومن ثم توافقت القيادات السياسية بالتصريحات حول رفض العنف، واحتواء الموقف.
في هذه الأجواء الساخنة، برز في الأفق الحديث عن انتفاضة ثالثة (كأنها "انتفاضة السكاكين")، يحاول البعض تشكيلها حسب ميوله وأفكاره السياسية قبل أن تولد، مع ضبابية في الأهداف المرجوة، وهناك قيادات تريد لها - إن حصلت - أن تعدّل من فرصها، وتمكّنها من استعادة شيء من الحضور السياسي.
إن الحديث عن "المقاومة" هو استخدام لكلمة فضفاضة تحرّك مشاعر الناس، وتذكرّهم بجبن اليهود أمام بطولات المسلمين، وهي عندما يراد منها العمل الجهادي الفردي تكون أعمالا مشروعة، يمكن أن تسهم في يقظة الأمة للقيام بواجبها الجهادي نحو فلسطين.
ولكنّ تحوير مفهومها نحو المقاومة السلمية - التي تدندن لها تلك الرجالات التي تعتاش من قصعة السلطة وتدَّهِن من إفرازاتها - هو دفع لشباب فلسطين نحو إراقة دمائهم لأجل تلك المصالح السياسية الهابطة، وفي سوق المتاجرة بدماء الشهداء الزكية على طاولة المفاوضات الوسخة. إذ إن القيادات الرسمية التي تريد مقاومة سلمية قد حدّدت فلسفتها في الحياة، بأن "الحياة مفاوضات!"، وهي بالتالي لا يمكن أن تقبل بانتفاضة عسكرية تشعل الجهاد في الأمة الإسلامية.
تلك القيادات السلطوية لا تريد لها أن تكون أكثر من ورقة ضغط على طاولة المفاوضات، وهذا كله ضمن السلوك السلطوي المبني على عقيدة التنسيق الأمني. وهي تدندن اليوم على طلب "توفير الحماية الدولية للفلسطينيين"، بما يؤكد أنها تريد تجيير هذه الدماء الطاهرة من أجل تنفيذ مخططها المتجدد في استجلاب احتلال دولي جديد فوق الاحتلال اليهودي.
إن السؤال الأهم الآن، ليس أن تنطلق انتفاضة ثالثة أو لا تنطلق، بل السؤال الطبيعي هو: هل ثمة من أفق للحراك الشعبي على سكة الحلول السياسية؟
إن حصر العمل العسكري لتحرير فلسطين بأعمال فردية مع إعفاء الجيوش من واجبهم في تحريرها هو التضليل بعينه، وإن حصر مسؤولية التصدي للعدوان اليهودي بأهل فلسطين هو الخيانة العقدية بحد ذاتها، فمتى كان الشعب المكبّل بالاحتلال هو المسؤول بينما الجيوش المدججة بالسلاح معفاة؟!
إن مثل ذلك الخطاب السياسي هو عزف ضمن جوقة الحكام، بل نعيق في سرب خيانتهم وتخاذلهم وتخليهم عن قضية فلسطين، منذ أن شكّلوا "منظمة التحرير" وجعلوها الممثل الشرعي لأهل فلسطين، بل الممثل عليهم، ولذلك فإن تلك المطالب الفصائلية ومحاولة بعث منظمة التحرير من غيبوبتها السياسية، ومحاولة استنهاض ملجأ العجزة ذاك هي تضييع لقضية فلسطين ولهذه الدماء الزكية التي ترتقي أرواح أصحابها لبارئها راضية مرضية.
وليس أمام الأمة الإسلامية من سبيل للتصدي لهذا العدوان اليهودي الوحشي إلا الثورة الشاملة على الحكام الخائنين لفلسطين وللأمة، مع العمل على تحرير الإرادة العسكرية للجيوش حتى تقوم بالواجب الطبيعي والشرعي لها، فتتلاقى غضبة أهل فلسطين مع ثورة الأمة، وتتعانق أرواح شهدائها مع شهداء الجيوش الذين يملكون الصواريخ والطائرات، بل والقوة النووية، فهل يعقل من أمة الجهاد أن تسكت عن ترك القنبلة النووية والصواريخ العابرة للقارات وتكتفي بالسكاكين؟؟!!
رأيك في الموضوع