مما لا شك فيه أن رسول الله ﷺ قد طبق الإسلام عملياً، وكذلك خلفاؤه الراشدون ثم من أتى بعدهم حتى الخلافة العثمانية، إذ إن المسلمين لم يعرفوا عيشاً لا خليفة لهم فيه، وكانوا يبايعون الخليفة، فيطبَّق عليهم شرع ربهم وتوزع عليهم أعطيات بيت المال، ويشاهدون الجيش وهو يتحرك للجهاد لتبليغ رسالة رب العالمين، كذلك كانوا يرون الحدود تطبق أمام أعينهم، والزكاة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم، ويشاهدون التجار يتاجرون بلا ضريبة جمارك (مكوس). وهكذا استمر عيش الأمة طبيعياً مستظلة براية لا إله إلا الله محمد رسول الله ﷺ في أمن وطمأنينة نتيجة تطبيق أحكام الإسلام، تحاسب الحاكم إن ظلمها أو أساء تطبيق الإسلام عليها، تسارع للجهاد طلباً للنصر أو الاستشهاد، لا تأخذها في الله لومة لائم، واستمرت عزيزة تطبق الإسلام في الداخل، وتنشره في الخارج بالدعوة والجهاد، وبقي حالها هكذا حتى أُلغيت الخلافة بعد الحرب العالمية الأولى على يد مجرم العصر مصطفى كمال وأعوانه، ورغم زوال دولة الخلافة منذ قرن من الزمان.
منذ أن هدمت الخلافة العثمانية على يد اليهودي المجرم مصطفى كمال في 1342هـ، والأمة الإسلامية تعيش حياة غير طبيعية، وما زالت تئن تحت وطأة كوابيس غياب شمس الخلافة، ويشاركها العالم أجمع في ذلك، وإنها لحقيقة ذلك القول الذي تفوه به لورانس في وصف غياب الخلافة يصف الواقع الذي نعيشه بكل دقة، ففي رسائله السرية قال: "على أن نشاط (الشريف حسين) يبدو مفيداً لنا، لأنه يتماشى مع أهدافنا المباشرة تفتيت الجبهة الإسلامية وهزيمة وتمزيق الإمبراطورية العثمانية، وإذا عولج العرب بطريقة مناسبة سيظلّون في حالة من التشرذم السياسي، نسيج من الإمارات الصغيرة المتحاسدة وغير القابلة للتماسك".
لقد دفعت الأمة أثماناً غالية نتيجة غياب شريعة الإسلام عن الحياة، بعد أن فرض الاستعمار الغربي الكافر أنظمته على حياة المسلمين بواسطة أنظمة عميلة لا تمتلك قرارها، مهمتها الأساسية هي محاربة شرع الله تنفيذاً لأوامر سيدهم المستعمر، أنظمة لا تبالي بمقدس ولا دم حرام، بل ترتكب كل المخالفات الشرعية، كل ذلك حدث بسبب غياب الخلافة.
لا تستطيع مجلدات أن تصف ما لحق بالأمة بسبب غياب الخلافة، لأنه يعني غياب شرع الله عن الأرض، وهو رأس كل مصيبة ألمت بالأمة، فالمسلم لا يستقيم إسلامه وهو يعيش بعيداً عن شرع الله، فالخضوع لقوانين الكفر من الشرائع الوضعية بعد عن الإسلام، فالإسلام عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام، بل نظام شامل متكامل لا يغني تطبيق بعضه دون بعض وهو كل غير قابل للتجزئة من حيث الإيمان والتقبل، قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾، وقال تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾، ففي الإسلام أنظمة وحلول لمشكلات الحياة جميعها، فمن خلال استقراء النصوص الشرعية نجد أن الإسلام فيه نظام حكم، ونظام اقتصادي، ونظام اجتماعي، وسياسة خارجية وسياسة التعليم...، فهو يحوي أنظمة المعاملات والعقوبات، وليس هو دين عبادة فقط.
إن غياب الخلافة هو في حقيقته خضوع المسلمين للسياسة الاستعمارية التي أذاقتهم الويلات العظام، ليس فقط في تمكين يهود من تدنيس أولى القبلتين ومسرى الرسول ﷺ، بل أيضاً باتفاقيات السلام المزعومة مع كيان يهود التي وقعها حكام المسلمين الخونة لحراسة أمن يهود بدلاً من تطهير الأرض المباركة من رجسهم، وبدلاً من ذلك قاموا بتنفيذ تعليمات سيدهم المستعمر بشن الحروب المدمرة التي أهلكت الحرث والنسل في اليمن وسوريا وغيرهما من بلاد المسلمين.
بغياب الخلافة سار حكام المسلمين مختارين في تنفيذ السياسة الاستعمارية الداعية إلى تغريب المجتمعات في بلاد المسلمين، والتوقيع على اتفاقيات التفسخ والعهر كاتفاقية سيداو وقاموا بتغيير المناهج الدراسية لتتماشى مع أوامر الاستعمار مع وجود الإعلام الذي لا هم له إلا فرض الشخصية الغربية كنموذج يحتذى به، كل ذلك أدى إلى تحطيم مقومات الشخصية الإسلامية على كل الصعد الفكرية والثقافية والاقتصادية والسياسية، مما أدى إلى الإقصاء الكلي للإسلام من واقع حياة المسلمين، وفي أحسن الأحوال حصر الإسلام بممارسة بعض الشعائر التعبدية الفردية، التي لا تؤثر في نهضة المسلمين، أو فكاكهم من ربقة الغرب المستعمر.
ويشارك الحكام في جرائمهم تلك بعض علماء السوء الذين ارتضوا لأنفسهم أن يزينوا باطل الحكام، وفي أحسن الأحوال السكوت عن جرائمهم، وأول ذلك تعطيلهم لشرع الله؛ فبينما تجد كثيرين منهم يصولون ويجولون فيما يضر ولا ينفع من فتاوى ومحاضرات لا تمس الواقع بصلة، لا يستحي أحدهم من سكوته عن جرائم الحكام الظلمة الخونة الذين يظاهرون الكفار ويعطلون شرع الله، ويحاربون العاملين لتطبيق شرعه.
إن الاستظلال بحكم الشريعة الربانية بحيث تكون دولة الخلافة دولة هداية ورعاية ورحمة وعزة وعدالة، لهو أمر عظيم ناهيك عن أن أمة الإسلام لها رسالة؛ هي إدخال الناس في الإسلام لإخراجهم من الظلمات إلى النور، عندما كان المسلمون تلك قضيتهم، كانوا يمتلكون مشارِقَ الْأَرْضِ ومغارِبهَا بجانب ما كانوا عليه من حضارة وعمران ورقي فكري وتطور مدني، فقد كان الناس في بقية البلاد يشتاقون للعيش تحت ظل الخلافة، وكانوا ينتظرون جيوش المسلمين لتفتح بلادهم للحاق بركب العلم والنجاة من الجهل والتخلف، وما كتبه لويس سيديو عن الأغالبة الذين أدخلوا حضارة الإسلام إلى أفريقيا دليل على ذلك فقد قال: "لم يدخر بنو الأغلب وسعاً في إنعاش ما يستلزمه كل بلد غني خصيب من التجارة والصناعة والزراعة، فسهلوا الصلات بين سكان الصحراء وسكان الساحل بما أوجدوه من المستودعات، وأنشأوا الطرق، وسهروا على سلامة المواصلات، وأحدثوا نظارة عامة للبريد بين حدود المغرب ومصر، ثم أقاموا دوراً للصناعة في أهم المرافئ، فكان لهم أسطول قوي أضحوا به سادة البحر". وما زالت سكة الحديد التي أنشأها الخليفة عبد الحميد الثاني رحمه الله معلماً شاهداً إلى الساعة على عظمة دولة الخلافة.
إن قيام دولة الخلافة من جديد هي مسألة وقت لا غير، كما أن الاستخلاف والتمكين والعزة والرفعة آت لا مناكفة في ذلك، وإن العمل لاستئناف الحياة الإسلامية، ومبايعة خليفة فرض في عنق كل مسلم ومسلمة، يحرم التقصير فيه، ويجب العمل له حتى ينزع الله الذل عنا، وحتى نعود إلى سيرتنا الأولى؛ خير أمة أخرجت للناس.
رأيك في الموضوع