بينما تعيش الأمة على امتداد جغرافيتها حالة من التشتت والضياع، ويخيم عليها الحزن والبؤس من كل جانب، وتنهشها الكلاب الضاريات من أطرافها، ومن قلبها فما أبقت في جسدها شبراً إلا وأثخنته جراحاً، وتركته ينزف دماً، حرصنا على أن نلفت الأنظار نحو بقعة الضوء في نهاية النفق، واجتهدنا أن نحمل قناديل النور التي تنير للناس طريقهم إلى غايتهم، فرفعنا شعار "الخلافة نصر من الله وفتح قريب"، وكلنا ثقة ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾.
كتاب النصر لا تنتهي صفحاته، ولا تنقطع رواياته، رسم حروفه وكلماته إيمان وثقة بالله، وعزائم ويقين، وإعداد وثبات وحسن توكل على الله، هذا إبراهيم الخليل سلام الله عليه كانت ﴿حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ ينبض بها قلبه قبل أن ينطق بها لسانه لتخضع النار لأمر خالقها وموقد شعلتها ﴿كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً﴾، وتلك دعوة نوح ﴿أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ﴾ ليلتقي الماء على أمر قد قدر، فنُجي نوح ومن معه على ذات ألواح ودسر ﴿بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾، وفي الحديث عن الحالة الفرعونية والصراع الذي خاضه موسى عليه السلام، فيما يشبه حالة الصراع بيننا وبين حكامنا اليوم، والذي لم تكد سورة من سور القرآن إلا وتحدثت عنه لعظم الدرس والعبرة فيها والذي يلخصها جميعاً سبحانه وتعالى بقوله ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾.
الحقيقة التي يجب ألا تغيب عن الأذهان أننا أمة الإسلام امتداد لتلك السلسلة الذهبية من أنبياء الله الأشراف الأطهار الأخيار، والذين آمنوا معهم والتابعين لهم بإحسان، ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾، ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾، وإن سنة الله ماضية في نصرة عباده المتقين ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾، وإن وعد الله قائم إلى يوم الدين بالنصر والتمكين لعباده المؤمنين ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، ﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
إن حال العالم اليوم وما تعانيه البشرية من ظلم وظلام لا حل له إلا الإسلام، ولكي يستطيع الإسلام كمبدأ أن يمارس دوره في إنهاض الأمة، وإنقاذ البشرية لا بد له من دولة، تضعه موضع التطبيق، وإذا وقفنا أمام هذه الحالة من التشرذم والضياع والظلم المنتشر في أصقاع العالم، والفقر والجوع الذي يكاد يفتك بمجتمعات بأكملها، والانحلال الأخلاقي، والتفكك الأسري، وسلعنة المرأة، والجشع والطمع والهوس المادي الذي يخنق العالم بسبب الحضارة الغربية، ونظامها الرأسمالي المجرم، وفي الوقت نفسه بالنظر إلى كم النصوص الشرعية التي توجب الحكم بما أنزل الله، وتفرض علينا التوحد كأمة، ووجوب بيعة خليفة يحكمنا بما أنزل الله، ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾، ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ﴾، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ وفي الحديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي الله e أنه قال: «مَنْ خَلَعَ يَداً مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلَيَّةً» رواه مسلم، من ذلك كله نفهم أن الخلافة والعمل لإيجادها فريضة شرعية وضرورة بشرية، فالمسلمون مكلفون اليوم أن يحملوا الراية، ويؤدوا أمانتهم ويكملوا رسالتهم تجاه أنفسهم وتجاه العالم أجمع ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾، ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾.
بالأمس القريب كنا نسير والزمان يرقبنا يعجب من أمرنا نتمثل قول الشاعر:
من ذا الذي رفع السيوف *** ليرفع اسمك فوق هامات النجوم مناراً
كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا *** علـى مـوج البحـار بحـاراً
كان لنا دولة يخاطب أميرها السحاب "أمطري حيثُ شئتِ فإنَّ خراجكِ عائدٌ إليّ"، ويطلب آخر من عماله أن ينثروا القمحَ على رؤوسِ الجِبال لكي لا يقال: جاعَ طيرٌ في بلاد المسلمين، تستنجد هولندا بسلطاننا فيرد عنها العدوان بقمصان 40 من جنوده، وتستغيثه إيرلندا من الجوع فيغيثها بالمال والطعام رغم أنف بريطانيا الظالمة، يهتم فاروقها بأدق تفاصيل رعايتها وراحتها، حتى بلغ به الأمر أن يهتم لبغلة تسير في طرقات المسلمين مخافة أن يسأله الله عنها، يأتيها طلاب العلم من كل حدب وصوب لينهلوا من معين عطائها الصافي وحضارتها الزاخرة، لا يجرؤ أي ظالم على أن يدوس على طرف فرد من رعيتها مسلما كان أم غير مسلم، يقضي قاضيها بالحق والعدل ولو على قطع يد محمد الفاتح، لا فرق بين الناس في جنسهم أو لونهم أو دينهم، إذا دخلنا أرضاً فاتحين دخلناها هداة مهديين لا ضالين ولا مضلين، نخرج الناس من ظلمات عقائدهم إلى نور الإسلام، لا ننازعهم أرضهم، أو عرضهم، فإن أسلموا فهم إخواننا في الدين، وإلا فهم أهل ذمتنا لا يصيبهم سوء ولا أذى بيننا، حمايتهم والدفاع عنهم واجب علينا، دولة النساء فيها شقائق الرجال، أم وأخت وبنت وزوجة تبذل لأجلها النفس، هي قاضية أو معلمة، طبيبة أو مهندسة، صاحبة رأي ومشورة، وسياسية وحاملة دعوة ومجاهدة.
أيها المسلمون! إن أعداءكم يدركون كم هم أقزام أمامكم، ويدركون أن حضارتهم غير قادرة على إنقاذ البشرية من الضنك والشقاء الذي أصابها، وهم يخشون إسلامنا، ويخشون اجتماعنا من جديد، لذا يسعون بكل طاقتهم لإبقاء حالة التشظي، والفرقة التي فرضوها علينا في مثل هذه الأيام قبل زهاء مائة عام، وهو ما يفسر هجماتهم الشرسة، وحروبهم المصطنعة بحجة (الإرهاب) وحكامكم هم أدواتهم في ذلك، فاستمسكوا بحبل الله ولا تخافوهم وثقوا بوعده سبحانه فهو خالقكم وخالق كل شيء وهو القادر على نصركم كما نصر نبيكم ومن معه من المؤمنين من قبل فأقاموا الدولة الإسلامية الأولى، ونحن في ذكرى هدم خلافتكم ندعوكم للعمل معنا لإقامة فرض الله العظيم واستئناف الحياة الإسلامية، لنحقق معاً بشرى رسول الله e بإقامة دولة الخلافة الثانية على منهاج النبوة «ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ» خلافة تطبق كتاب ربكم وسنة نبيكم، تنصر المظلوم وتغيث الملهوف، تلم شعثكم وتجمع شملكم، ترحم كبيركم وترعى صغيركم، تصون أعراضكم وتحافظ على أموالكم، ترد عنكم عدوكم وتحرر أقصاكم، لا فرق فيها بين عربكم وعجمكم، أبيضكم وأحمركم، سلمكم واحدة وحربكم واحدة يسعى بذمتكم أدناكم.
﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾
بقلم: الأستاذ خالد سعيد
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة فلسطين
رأيك في الموضوع