إنَّ مسؤوليَّة الرَّأسماليَّة عن الوضع الاقتصاديِّ الرَّاهن الذي يموتُ فيه شخصٌ كُلَّ ثانيةٍ بسبب الجوع وسوءِ التَّغذية لا يمكن إنكارها، ويُعتَبَرُ البنك الدَّوليُّ وصندوقُ النَّقد الدَّوليُّ الأداتانِ الرَّئيسيَّتانِ للرَّأسماليِّة، ويتحمَّلانِ المسؤوليَّة بشكلٍ مُباشرٍ عن الأوضاع الاقتصاديَّة السَّيِّئةِ في العالَمِ النَّامي ومنه الإسلامي والعربي، وبالتالي عما يزيد عن 500 مليون فقير في العالم الإسلامي والعربي يعانون من شدة الجوع في اليمن والسودان وجيبوتي وموريتانيا والأردن والسعودية وتونس والمغرب وبنغلادش وإندونيسيا وغيرها.
ولا شكَّ أنَّ العلاقة بين الفقر الذي يسود العالَمِ والبنك الدَّوليِّ الذي يُعتَبَرُ الأداةَ الرَّأسماليَّة الأنكى علاقةٌ وثيقةٌ تَنطِقُ بها وتُمثِّلُها العديد من الحالاتِ والوقائِعِ، ولعلَّ أزمةَ الضرائب وارتفاع الأسعار في الأردن والسودان اليوم أكبر دليل على ضلوع البنك الدولي في فرض حالة الجوع والضنك على الشعوب. ويمارس البنكُ الدَّوليُّ وصندوقُ النَّقد جرائمهما من خلال ما يُعرَفُ باسم برامج التَّكَيُّفِ الهَيكَليِّ التي وَضَعَت الشروطَ الجائرةِ، وفرضت تَغييراتٍ في السِّياسة الاقتصاديِّة الكُلِّيَّةِ تُلزِمُ الدُّوَلَ بتحريرِ سياساتهم التِّجارِيَّةِ والاستثماريَّة لتمكين الشركات الاستعمارية من نهب ثروات الشعوب. حيث خَفَّضت الحكوماتُ الرُّسومَ الجمركيَّةَ على السِّلَعِ المُستَورَدَة، ورفعت الدَّعم عن المُنتَجاتِ المَحلِّيَّة وخاصَّةً الموادَّ الغذائيَّة، وقلصت الأراضي ذات المَساحات الكبيرة الزِّراعية وأُغرِقَت البلادُ بسياساتٍ اقتصاديَّةٍ وماليَّةٍ أدَّت إلى صعوباتٍ كبيرةٍ في سدادِ القُروضِ، والنَّتيجةُ النِّهائيَّةُ لهذه السِّياساتِ والقُروض هي الاعتمادُ على الأغذية المُستَورَدَة والإمداداتِ من الشَّركات الرَّأسماليَّة العملاقة، وتظهرُ آثار الهيمنة الرَّأسماليَّة في العالَمِ على الأوضاع الاقتصاديَّة السَّائدة من الفقر والجوع والأوبئة الصِّحِّيَّةِ في كثير من البلدان خاصة بلاد المسلمين.
إن قواعد النظام الرأسمالي تؤدي حتما إلى فقر الشعوب وجوع الملايين من الناس، حيث تعتبر زيادة الإنتاج والثروة وقانون العرض والطَّلب وجهاز الثمن هي الطريقة الوحيدة لتوزيعٍ الثَّروة. والحقيقة هي أنه في الوقت الذي تَوَاصَل ارتفاعُ إنتاجِ الثَّروة في ظلِّ الرَّأسماليَّة على مدى السنوات المئة الماضيةِ، فقد استمرَّ عددُ الأشخاص الذين يُصَنَّفونَ فقراءَ وجياعاً بالازدياد رغم نموِّ الثَّروة وزيادَتِها بشكلٍ مُضْطَرِدٍ، وهذه الظَّاهرة ظاهرةٌ عالميَّةٌ تشملُ الدُّوَلَ الغنيَّةَ جدّاً مثل أمريكا كما تشمَلُ الدُّوَلَ الفقيرة جدّاً مثل هايتي وجنوب الصَّحراء الكُبرى ولبنان والأردن والسودان.
وقد لخص هذه الحقيقة بَيانُ مُنظَّمةِ الأغذية والزِّراعة العالميَّة (الفاو) الذي أعرب عن القَلَق العميقِ إزاء استمرارِ الجوعِ الذي يُشكِّلُ تهديداً للمُجتَمَعاتِ والذي جاءَ فيه: "من غير المقبول أنْ يكونَ أكثر من 800 مليون شخصٍ في جميع أنحاءِ العالَمِ، وخاصَّةً في البلدان النَّامية، ليس لديهم ما يكفيهم من الغذاء لتلبية احتياجاتهم الغذائيَّة الأساسيَّة في الوقت الذي ازدادَت الإمداداتِ الغذائيَّة على مُستوى العالَمِ بشكلٍ كبيرٍ، ولكنَّ الفقرَ والجوع ما زال مُستَمرّاً". فالمشكلة ليست ندرة الموارد الغذائية كما صرِّح مُديرُ معهد سياساتِ الأغذية والتَّنمية في أمريكا "الاعتقاد بأنَّ مُشكلة الجوع في العالَمِ يمكِنُ حلُّها من خلال زيادة إنتاج الغذاءِ خرافةٌ لا أساسَ لها، إذ إنَّ المُشكِلَة الحقيقيَّة في الفقر هي سوءُ توزيعِ الغذاء والثَّروة". فالرَّأسماليَّة كنظامٍ لا تُعالِجُ قضيَّةَ الجوع، بل تزيدُ من احتمال عجز الأفراد عنتلبية احتياجاتهم المُلِحَّةِ،وقد فشلت في تحقيق السَّعادَةِ والأمنِ والرَّخاءِ لِملياراتٍ من النَّاس في جميع أنحاء العالَمِ، وزَرَعَت الأرضَ فقراً ومرضاً وحروباً وجوعاً ودمارا.
وبالمقابل فإن النِّظام الاقتصادي في الإسلام يقدم حلا جذريا لقضية الفقر والجوع باعتباره جزءاً لا يتجزَّأُ من النِّظام الإسلاميِّ الشامل. إذ إنَّ القوانين المُتعلِّقة بالاقتصاد والأموال مُرتَبِطَةٌ مع القوانين الأُخرى كالزَّواج والعلاقاتِ الأُسريَّةِ والسِّياسة والقِيَمِ والعِباداتِ والمُعتَقَداتِ وغيرها. فالزَّكاة إحدى ركائز الاقتصاد قد فُرِضَت مَقرونَةً بالصَّلاةِ في أكثرِ من أربع عشرة آيةً بصِيَغٍ ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾. وإطعام المسكين الذي قد لا يملك قوت يومه جاء علاجا لبعض المسائل كالظهار ﴿فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً﴾. وهذا يعني أنَّ النظام الاقتصاديَّ في الإسلام جزءٌ من كلٍّ؛ فهو مرتبطٌ بمفاهيم الإسلام وعقائده ونُظُمِه، ولا يمكن دراستُهُ وتطبيقُهُ بمعزِلٍ عنها، فالنِّظامُ الاقتصاديُّ في الإسلام يمكنُ أنْ يحقِّقَ العدلَ والإنصافَ عندما يتم تطبيقه باعتباره جزءاً من تطبيق الإسلام كاملاً. والمفاهيم المتعلقة بالاقتصاد تشمل مفهوم الرِّزق (الثَّروَة)، ووفرة الموارد بدلا من ندرتها، وفقر الأفراد بدلا من فقر المجتمع، وتحديد قيمة الحاجات والخدمات تحديدا واحدا وحقيقيا.
أما مشكلة الفقر في نظر الإسلام فهي مشكلة الفقير الذي لا يتمكن من إشباع حاجاته الأساسية من طعام وكساء وسكن، ولا ينظر إلى الفقر باعتباره مشكلة مجتمع يفتقر إلى الموارد الطبيعية، بل مشكلة إشباع حاجات أفراد المجتمع فرداً فرداً. وبعبارة أخرى يعنى الإسلام بمشكلة الفقراء لتمكينهم من إشباع حاجياتهم الأساسية فرداً فرداً، ويفتح الطريق للناس جميعاً لإشباع حاجياتهم الكمالية بالعلم والكد والعمل. فالإسلام في نظامه الاقتصادي يركز على عدالة توزيع الموارد الطبيعية بشكل يضمن من خلاله إشباع الحاجيات الأساسية لأفراد المجتمع فرداً فرداً.
فالإسلام يحارب الفقر فقد قال رسول الله e: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَشْبَعُ وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ" وفي حديثٍ آخرَ: «مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ». فالإسلام يُحارِبُ بشدَّةٍ وجودِ الجوعِ والفقرِ في المُجتَمَعِ، ويجعل مُقاوَمَتَهُما علامةَ الإيمان بالله تعالى. فنُلاحِظُ كيف يربِطُ رسول الله e وبدقَّةٍ بين رفضِ الفَقرِ والقضاء عليه وبينَ الإيمان، فلم يجعل المَفهومَ مُجرَّدَ قاعدةٍ إداريَّةٍ يتولَّى أمرَها الحاكِمُ ويَسُنُّ لها القوانينَ لتوفيرِ الغذاء للفقراء، ولكنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام استَنَدَ إلى الأَساسِ الفِكريِّ للعقيدةِ الذي بناه لَبِنَةً لَبِنَةً على مدى ثلاثة وعشرين عاماً، ثمَّ توجَّهَ مُخاطباً ومُستَنِداً إلى هذه العقيدةِ المَبدئيَّةِ واستخدمها في معنى قوله: إنْ كُنتُم تؤمِنونَ بالإسلام كما تَزعُمونَ، فلن تناموا شَبعى وتتركوا جيرانكم يبيتونَ جَوعى. ما يُؤكِّدُ على حقيقةٍ مُهمَّةٍ وهي أنَّ الفَقرَ مَرفوضٌ بتاتاً وغير مَسموحٍ به في المُجتَمَعِ المُسلِمِ، وسار الخُلفاءُ الرَّاشدون بعد رسول الله e على المَنهَجِ نفسِه، واستمرُّوا بالتَّأكيد على الحاجة لمُجتَمَعٍ خالٍ من الفَقرِ.
أمَّا المبدأ الرَّأسماليُّ، فإنَّ استقرارَ المُجتَمَعِ اقتصاديّاً يُقاسُ بمدى النُّموِّ الاقتصاديِّ، وعلامةُ الاقتصاد السَّليم عند الرَّأسماليَّة هي زيادةُ النَّاتِجِ المَحلِّيِّ الإجماليّ، وارتفاع قيمة الأسهم في السوق الماليِ. وتتعالى أصواتُ الإنذارِ إذا تباطأَ النُّموُّ الاقتصاديُّ أو توقَّف لفترةٍ طويلةٍ من الزَّمنِ أو هبطت أسعار الأسهم في السوق المالي. وهذا بخلاف الإسلام، فإن أجراسَ الخطر تقرع، وتعلو أصواتُ الإنذارِ إذا استمرَّ وجودُ الجوعِ في المُجتَمَعِ، فالإسلام لا يسمحُ للمُجتَمَعِ أنْ يرتاحَ ما دامَ هناك إنسانٌ جائعٌ، رجلاً كانَ أو امرأةً أو طفلاً.
وقد حدَّد القرآنُ الكريم ثماني فئاتٍ من النَّاس تستحقُّ الحصولَ على أموالِ الزكاةالتي يتمُّ جمعُها في الدَّولة الإسلاميَّة من الأغنياء، كما حَظِيَ إطعامُ المِسكينِ باهتمامٍ كبيرٍ حيث رفعَ مكانةَ من يُحسِنُ للمسكينِ إلى أعلى درجةٍ، وساوى ذلك بالعباداتِ الأكثر تقرُّباً إلى الله تعالى، فقال تعالى: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أو إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أو مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾. كما فرض الإسلام إطعام المساكين كفارةَ الإفطارِ في رمضان، وكفارة الحنث باليمين، والظهار، ما يظهر مدى أهمِّيَّةِ مُحاربَةِ الجوع في المُجتَمَعِ الإسلامي.
لقد خَلُصَ المالكيُّ في كتابه "السِّياسة الاقتصاديَّةُ المُثلى" إلى أنَّ المُشكلةَ الرَّئيسيَّة التي يُعالِجُها النِّظام الاقتصاديُّ في الإسلام هي مُشكِلة فقر الأفراد في المُجتَمَع، فقَبْلَ أنْ تُفرَضَ التشريعات والقواعد، وتوضَعَ الآليَّاتُ لحلِّ مُشكلةِ الفقر عند الناس؛ رفعَ الإسلام من مُستَوى الوعي بين مُكوِّناتِ المُجتَمَعِ بشأن قضيَّة الفقر والجوع، ورفع عالياً شأنَ المُسلِم السَّخيِّ المُنفِقِ على الفقراء والمَساكينِ ليُوفِّرَ لهم المواد الغذائيَّة والسِّلَعَ التي لا يملكون تكاليفها، كما عَمَدَ إلى انتِقادِ مُجتَمَعِ مَكَّةَ المُكرَّمة بإدانةِ مُمارَساته القاسية تِجاهَ الفقراء والمحتاجين والأيتام، وحَمَّلَ المُسلِمينَ بالمقابل مَسؤوليَّة تَنقِيَةِ المُجتَمَعِ من أيِّ ممارساتٍ شبيهةٍ لتلكَ التي سادَت مُجتَمَعَ مَكَّةَ ضِدَّ الفقراءِ، فلا عجبَ أنْ تَجِدَ من خُلَفاءِ المُسلِمين وحُكَّامِهم من أَقسَمَ أنْ يقتُلَ الفقر ليُحيِيَ الفُقراء على فرض صحَّة نسبة هذه الأقوال إليهم!
وبالمحصلة قد ضَمِنَ الإسلام إشباعَ الاحتياجاتِ الأساسيَّة للأفراد فرداً فرداً، وحارب الجوع وقضى عليه فعليا حين ساد الإسلام وطبق في أرض الواقع، حيث حث الفَردَ على الكسبِ وطلب الرِّزقِ والسَّعيِ إليه، وفرض النَّفقة المُتعلِّقة بالأقارب والأرحام، وخصَّصَ نفقةً مُحدَّدةً من وارداتِ الزَّكاة والصَّدقاتِ للفُقراء. كذلك من واردات الملكيات العامَّة ومُلكيَّةِ الدَّولة.
واليوم، يعيشُ العالَمُ كلُّهُ في حالةٍ من الضنك والفقر والجوع أكثرَ من أيِّ وقتٍ مَضى، والتردي في الأخلاق والقِيَمِ، وحالةٍ يتحكَّمُ فيها الغنيُّ بالفَقيرِ، وحالةٍ من انهيار إمبراطوريَّاتٍ، وسُقوطِ الأصنامِ التي صنعها الإنسانُ ولم تَعُد قادرةً على الحفاظ على السَّادة أو الإبقاء على العبيدِ. وهذا هو الوقت المُناسِبُ لظُهورٍ مُشرقٍ لنظامِ ربِّ العالمين الواحد الأحد، الله الرَّحمن الرَّحيم، النِّظامُ الذي يقضي على الفقر والجوع، والذي لا يحمل في طيَّاتِهِ تَحَيُّزاً ولا عُنصريَّةً تجاه الأغنياءِ أو البيضِ أو السُّودِ أو الغَربِ أو الشَّمالِ. هذا هو الوقت المُناسِبُ لظهور نظامٍ جديدٍ يستطيعُ أنْ يوجِدَ توازناً في توزيع الثَّروَةِ وتوازُناً بين القوانين فيجعلُ لها مِقياساً واحداً فقط هو مِقياسُ قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾.
بقلم: الدكتور محمد الجيلاني
رأيك في الموضوع